مجتمع

 مشاوي لبنان بين رائحتي اللحم والباذنجان

منذ بدايات الأزمة، يستحيل عليّ الترجّل من السيارة إلى المنزل دون أن يستوقفني جاران، كلٌّ من “بلكون” للسؤال عن مصير سعر الصرف. فأنتقي الكلمات بحذر ودقة لخشيتي عليهما من ذبحة قلبية أو ارتفاع غير محسوب بضغط الدمِّ.

مع الوقت، كنت ألاحظ أنّ ملامح أحدهما تنقبض، حين أقول إنّ الليرة ستواصل هبوطها أمام الدولار، فيما ملامح الثاني تنفرج. ومع الوقت، كان يمكنني الملاحظة أيضاً أنّ جبين الأول يترهل فيما البوتوكس الجديد يسرح في وجه الثاني.

وفي المصعد، كان يمكن ملاحظة عطر ما بعد الحلاقة الفرنسيّ الخاص الأصيل الخاص بالجار الثاني يمرح لوحده، فيما تحوّل عطر حلاقة الجار الأول إلى مجرد ذكرى جميلة. وحال العطور من حال روائح المشاوي التي تواصل تسلّلها من تصدعات شقتنا المجاورة للجار الثاني، فيما حال مطبخ الجار الأولى مثل مطبخنا: يوطّد علاقته بالباذنجان المشوي والمقلي و… المسلوق.

ومع الوقت، لم يعد الجار الأولى يسأل، إنّما يرمي السلام من بعيد. أما الثاني، فتوسّعت رقعة ابتسامته، حتى بت أتخيل أنّ شفتيه موصولتان بأذنيه، مترقباً حالتي حين أترجّل متثاقلاً من السيارة، أنّ الدولار سيواصل صعوده. فهو يقبض بالدولار.

هذان الجاران موجودان في كل طابق، في كل مبنى، على امتداد الأراضي اللبنانية.

في مقابلة تلفزيونية، يقول الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين إنّ عدد المقيمين في لبنان الذين يقبضون بالدولار، سواءً من الجمعيات أو المؤسسات الدولية أو منظمات الأمم المتحدة الكثيرة العاملة في لبنان (من ضمنها اليونيفيل)، أو الشركات الكبيرة، لا يقلّ عن نحو 70 ألفاً، يُضاف إليهم أكثر من 175 ألفاً_ تقول شركة تحويل الأموال (OMT) إنّ معدل ما يصلهم هو 520 دولاراً (انخفض من 600 دولاراً إلى 520). وهذا ما يعني أنّ نحو 250 ألف لبناني، أي 250 ألف عائلة من أصل نحو 900 ألف عائلة لبنانية تصلهم دولارات، دون احتساب موازنة حزب الله الذي يضخ سنوياً في السوق اللبنانية ما لا يقلّ عن 500 مليون دولار بالدولار (فيما تلفزيون “إم تي في” يقول إنّ إيران تلهث لبيعنا البنزين طمعاً بالليرات اللبنانية الثمينة). وعليه، فإنّ منزل من كل ثلاثة منازل لبنانية يدخله دولارات شهرياً في أسوأ تقدير، أو منزل من كل منزلين في أحسن تقدير.

ما سبق هو إيجابي في مكانٍ، طبعاً لناحية التأكيد أنّ الحضيض لن يبتلع الجميع؛ لكنّه سلبيّ جداً في تكريسه هوة ساحقة بين الناس. فصحيح أنّ الجارة التي تقبض بالدولار لا تستقبل ارتفاع الدولار بالزغردة وتحرص على السيطرة على فرحتها، إلا أنّ المجتمع يشهد انقساماً جديداً بين مَن هوى فجأة نحو قاع القاع، خاسراً براتبه قدرته الشرائية، مقابل مواطن آخر تضاعفت القدرة الشرائية لديه بدولاراته. فقدرة المئة دولار الشرائية اليوم هي غير قدرة المئة دولار الشرائية قبل بضعة شهور.

انفضح التجار: بمئة دولار لم يكن يمكنك أن تشتري حذاءً رياضياً واحداً قبل بضعة أشهر، فيما يمكن أن تشتري ثلاثة وربما أربعة اليوم. المئة دولار لم تكن تكفي لدعوة صديقك على عشاء أو سهرة قبل شهر، فيما يمكن أن تدعو صديقك وعشرة آخرين اليوم.

وفي النتيجة، هناك من يساير الجو العام بالتقشف، وهناك من لا يحتفل بتضاعف قدرته الشرائية رداً على من يندب حظه عن حق طبعاً. لكن الواقع أنّنا أمام انقسام مجتمعي مالي غير مسبوق، وهو يتركّز في مناطق أكثر من مناطق، كما تؤكد مراكز تحويل الأموال التي يتفاوت عدد زبائنها بين منطقة وأخرى. إلا أنّ الأخطر يكمن في أفقية ما يحصل، فهو يشمل الجيران في البناية الواحدة والأشقاء في العائلة الواحدة.

إنّ غالبية المهن الحرة، معلّم الكهرباء ومعلّم الميكانيك، والتاجر، وصاحب الدكان، واكبوا ارتفاع الأسعار برفع تسعيرتهم، مستفيدين من الثلث (أو النصف) الذي تصله دولارات سواء من الخارج أو الداخل. أما الكارثة الأكبر، فتطال من يعتاش من راتب بالليرة اللبنانية فقط، ومن لا يصله دولار من أي مصدر ولم يستطع رفع تسعيرته. مع العلم أنّ عدد مهم من هؤلاء سبق وخزّن بعض مئات الدولارات لكن مخزونه نضب أو يكاد ينضب.

الجاران غير قادرين على تغيير السيارة كل ثلاث سنوات كما اعتادا منذ سكنا في البناية. الجاران غير قادرين على تغيير هاتفيهما كل سنة أو ستة أشهر كما فعلا في الأعوام القليلة الماضية. وحتى لو كان أحدهما قادر أن يسافر هذا الصيف، فإنّه لن يفعل لأنّ هناك جواً عاماً يدفع المضطر وغير المضطر إلى التقشف. لكن الخطير بالأمر أنّ أحدهما سيواصل أكل وشرب ما كان يأكله ويشربه، فيما الثاني لا.

أحدهما قادر على مواصلة الذهاب إلى المنتجعات البحرية التي كان يقصدها العام الماضي والآخر لا. وحتى لو بقيت الاقساط المدرسية على حالها، فإنّ أحدهما سيكون قادراً في العام المقبل على إرسال أولاده إلى نفس المدرسة أو ربما نقلهم إلى مدرسة أفضل فيما الثاني لا. ولا نتحدث هنا عن اثنين في حيين مختلفين، إنّما عن جارين في البناية الواحدة أو شقيقين في المنزل الواحد.

غسان سعود

غسان سعود

كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى