الفنّانون والرّقص على جثث الموتى… من حرب تموّز إلى الانهيار الاقتصادي
قبل سنوات، وتحديداً في صيف 2006، كان لدى فنّاني لبنان عقود حفلات خارج البلد، يومها اندلعت حرب تموز، وكان الهم اللبناني الجامع، الصّمود في وجه العدوان الإسرائيلي، وتأمين ملاذٍ آمن لسكّان المناطق تحت خطّ النّار، أمّا بعض الفنّانين، فكان همّهم مغادرة لبنان عبر الطريق البرّي إلى سوريا، ومنها إلى وجهتهم المقصودة، بعد قصف مطار بيروت وتوقّفه عن العمل.
يومها، كان الأمير الوليد بن طلال يقيم حفلة في شرم الشيخ، تداعى الفنانون اللبنانيون لإحيائها، انتقدتهم الصحافة المصريّة بقسوة، وتساءلت كيف تخاض حرب إبادة ضد الشعب اللبناني، والفنانون اللبنانيون يرقصون وكأن شيئاً لم يكن؟
لم تكن حفلة الأمير وحدها التي جمعت الفنانين في مصر، بل استمر هؤلاء في إحياء حفلاتهم في القاهرة وكأنّ ليس ثمّة حرب تشنّ على بلادهم. الصحافة العربيّة يومها شنّت هجوماً عليهم، فأُرغم البعض على التبرّع بأجره للصليب الأحمر، واستمروا بإحياء ما تبقى من حفلات في العالم العربي، الذي ألغى يومها معظم فعالياته الفنيّة تضامناً مع لبنان.
ففي حرب تموز، قام الفنان الإماراتي حسين الجسمي بإلغاء كل ارتباطاته الفنيّة معلناً في بيان مقتضب “لن أغنّي وشعب لبنان يُقتل”، كذلك فعلت الفنانة الكويتية نوال التي قالت يومها إنّ الحرب أثّرت على نفسيتها ولم تعد تقوَ على الوقوف على المسرح، أما الفنانة التونسيّة لطيفة، فلم تكتفِ بإلغاء حفلاتها، بل دعت كل زملائها إلى التضامن مع المتضررين من الحرب ومساعدتهم، ولم يكتفِ الفنان العراقي كاظم الساهر بإلغاء حفلاته، بل قام أيضاً بالتبرّع للعائلات المتضرّرة من الحرب.
لم تصل أخبار حرب تموز إلى فناني العالم العربي فحسب، بل يومها قامت النجمة العالميّة بريجيت باردو، بالاتصال برئيس حكومة العدو إيهود أولمرت، طالبةً منه كفّ عدوانه عن الشعب اللبناني.
في تموز أيضاً، أعلن مهرجان جرش في الأردن عن إلغاء دورته لصيف 2006 تضامناً مع لبنان، وقام فنانون عرب بإعداد أغانٍ وإهدائها إلى الشعب اللبناني، ومنصف القول، إنّ الكثير من الفنانين اللبنانيين يومها ألغوا حفلاتهم، ورفضوا حتى مغادرة لبنان في ذلك الوقت العصيب، وهو أقلّ الواجب، إلا أنّ سلوك البعض غير المبالي في الحروب، عاد ليظهر اليوم في الانهيار الاقتصادي، ليؤكّد المؤكّد أنّ بعض النجوم يعيشون في أبراجٍ عاجيّة، منفصلين عن الواقع، لا يعنيهم سوى نجوميتهم وبريقهم وصورتهم في المرآة.
فمنذ اليوم الأوّل لاندلاع ثورة 17 تشرين، وما تلاها من انهيار اقتصادي، كان هم الكثير من الفنانين الفرار من جحيم البلد، فانتقل كثيرون إلى دبي، حيث حصلوا على الإقامة الذّهبية، ومن هناك بدأوا ينشرون صور جولاتهم السياحيّة وموائدهم العامرة، ضاربين عرض الحائط بمعاناة شعبهم الذي لم يعد يجد علبة حليب ولا قطرة بنزين ولا حتّى حبّة دواء.
قبلها، وعندما انفجر الوضع الوبائي في لبنان، وامتلأت المستشفيات بالمرضى في بداية العام الجاري، وانقطعت الصيدليات من الدواء، وأصبح اللبنانيون يموتون اختناقاً ولا يجدون عبوة أوكسيجين، سارع النجوم للسفر إلى دبي، وأمام الكاميرات تلقّوا لقاح كورونا، كان المشهد مستفزاً، إذ لم تكن اللقاحات قد وصلت بعد إلى لبنان، وكان اللبنانيون يودّعون أحباءهم ضحايا الوباء.
اليوم، لا يختلف المشهد كثيراً، ففي وقت تعلو فيه صرخات الأهل غير القادرين على تأمين الحليب لأطفالهم، قامت ستيفاني صليبا، الممثلة المثيرة للجدل، بنشر صورة تحيي فيها عيد ميلاد كلبتها، في مشهد استفزّ اللبنانيين، بعضهم طالب الفنانين بعيش الرفاهية التي يريدون، مع احترام عدم نشر تفاصيل حياتهم في الكوكب الموازي على السوشال ميديا، احتراماً لمعاناة شعبهم، الذي يعيش أقسى انهيار اقتصادي في العصر الحديث بحسب تصنيف صندوق النّقد الدّولي.
أمّا الفنان عاصي الحلاني، الذي أقام مائدة عامرة لأصدقائه، فقد قام بنشر صورة المائدة، في وقت يتقاتل فيه اللبنانيون على السلع المدعومة، هو نفسه الذي أقام حفلة ليلة رأس السنة، تكدّس فيه المواطنون في صالة مغلقة، وبعدها انفجر الوضع الوبائي في لبنان، وهوجم في الصحافة. ليعود ابنه في تلك الأجواء العصيبة والمستشفيات ممتلئة بمرضى كورونا التقطوا العدوى ليلة رأس السنة، بنشر صورة له وهو يتلقى لقاح كورونا في دبي.
ولم يختلف عنه زميله راغب علامة، الذي غنّى لبيروت، وأطلق شعارات ثورجيّة، ثم هرب وعائلته إلى دبي، ومن هناك بدأ ينشر صوره وهو يقوم بالسياحة.
الفنان فارس كرم كان الوحيد الذي وقف لزملائه بالمرصاد، انتقد انفصالهم عن الواقع عبر حسابه على “تويتر”، وقال إنّه بات يشعر بالخجل من كونه فناناً، وعلّق على منشورات تطالب الفنانين بعدم نشر صور الموائد العامرة والناس تموت جوعاً، بأنّه سبق وانتقد الأمر نفسه، فتعرّض لهجومٍ قاسٍ.
في هذه الظّروف العصيبة، ثمّة فنانون متمسّكون بالوطن يرفضون مغادرته، وثمّة فنانون هربوا من جحيمه رغماً عنهم، اللوم فقط على من أظهر أنّه ليس سوى فقّاعة بالون، تنفجر عند أول اختبار في ميزان الإنسانيّة والوعي والحسّ الوطني.