ماذا ينتظر لودريان في بيروت بعد كف الاتحاد الأوروبيّ؟
الكفّ الذي وجّهه الاتحاد الأوروبي لوزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان الشهر الماضي، فيما يخصّ الإدارة الفرنسية للملف اللبناني، كان مدوياً جداً. فلودريان حاول توريط الاتحاد الأوروبيّ كلّه بعقوبات سياسية، هدفها الأول والأخير: حماية الفاسدين ونظام الفساد في لبنان.
فرنسا تعلم جيداً من يهرّب الأموال من لبنان
الأوروبيون كما الفرنسيون يعلمون جيداً من حوّل ويحوّل الثروات منذ عقود، من لبنان إلى مصارف سويسرا والجزر البريطانية، وجميعهم من الأصدقاء اللبنانيين للإدارات الفرنسية. والأوروبيون كما الفرنسيون يعلمون جيداً من اشترى القصور والفيلل والفنادق والشقق واليخوت في فرنسا خلال العقدين الماضيين، دون أن يسأله سائل من دوائر الضرائب الفرنسية من أين له هذا كلّه.
والأوروبيون كما الفرنسيون يعلمون جيداً أنّ جميع القطاعات والإدارات المتهمة بالفساد في لبنان لها شركاء فرنسيون، في القطاعين العام والخاص؛ من شركة كهرباء لبنان شريكة شركة كهرباء فرنسا، إلى إمبراطورية توتال، وشركات السيارات، والمواد الغذائية، والدواء، والتعهدات، والمقاولات.
ومع ذلك، صُدم الأوروبيون حين رأوا لودريان يتذاكى عليهم بالحديث عن المكافحة الفرنسية للفساد اللبناني، في ظلّ التحالف التاريخي بين الإدارة الفرنسية وآل الحريري. فخرج على الفور من يقطع الطريق على محاولة لودريان توريط الاتحاد الأوروبي بمزيد من المعارك السياسية العبثية؛ كان صوت وزير خارجية هنغاريا بيتر سيارتو، الصوت الأعلى والأجرأ والأوضح في الرد على وزير خارجية ماكرون، لكنّه لم يكن الصوت الوحيد.
غياب وسائل الإعلام اللبنانية!
مع ذلك، لم تجد أي من وسائل الإعلام اللبنانية التي تهدّد وتتوعّد بالعقوبات الأوروبية منذ شهور، أي حاجة لإعداد متابعة خبرية لما حصل، تظهر فيها تقوقع وزير الخارجية الفرنسي على نفسه، مهزوماً ومنكسراً؛ بعد أن خرج من بين نظرائه الأوروبيين من “بهدله” على خيارات فرنسا الإستراتيجية الخاطئة، وتدخلّها الفاشل بشؤون غيرها، وحمايتها للأنظمة الفاسدة حول العالم دون أية مبالاة بحقوق الإنسان والحريات والعدالة.
الموقف الفرنسي في الساحة الإقليمية
لودريان، هذا الذي يحيط نفسه بمجموعة من المتعاطين بغباء مع الملف اللبناني منذ عام 2005، يزور لبنان حاملاً محاضرات ماكرون نفسها التي لا تهدف لشيء سوى حماية النظام السياسي والاقتصادي والإداري والمالي، الذي كانت فرنسا الشريك الدولي الرئيسي لرفيق الحريري في بنائه، مطلع التسعينات؛
هذا، ويبيّن التدقيق في جميع القطاعات عمق الشراكة الحريرية – الفرنسية فيه. مع العلم أنّ الرئيس الفرنسي كان قد استفاد بعد انفجار المرفأ من لحظة استثنائية، دفعت بجميع الأفرقاء إلى الترحيب بمبادرته، وغضّ النظر عن كل الأخطاء البروتوكولية؛ أمّا اليوم فالوضع يختلف بالكامل:
على المستوى الدولي، كان ماكرون يحاول تقديم نفسه كخصم لطيف لإيران مقارنة بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لكن تصنيفه تحوّل خلال الشهور الثمانية الماضية من إيجابي إلى سلبي جداً، عند الايرانيين. ولا شك أنّ إيران كلاعب إقليمي رئيسيّ لا تجد أي مبرر لإعطاء فرنسا – ماكرون المعادية لها دوراً مجانياً في لبنان.
على مستوى المنطقة، ثمة تحوّلات كثيرة ودور متقدم لكل من الصين وروسيا بموازاة الترتيب الأولي للعلاقات السورية – الخليجية، فيما الحراك الفرنسيّ معدوم على هذه الجبهة. وإذا كانت روسيا تتحدث عن مرفأ بيروت، باعتباره بوابة للبنان بكامله وسوريا والعراق والأردن والخليج (حين تنضج التسويات)، فإنّ فرنسا تنظر إلى مرفأ بيروت باعتباره بوابة لجبل لبنان فقط. وكذلك الأمر في الأمن والاستقرار والكهرباء والنفط والخدمات، حيث تفكر كل من روسيا والصين بلبنان كجزء من المنطقة، فيما تريده فرنسا مساحة ضيقة تنهش منه شركات ماكرون كل ما بوسعها نهشه.
أمّا على المستوى اللبناني، فلم تكن ملامح التوازنات الدولية قد توضحت بعد، وكان ما يُوصف بالمجتمع المدنيّ يحتلّ الساحات، وأصوات الفضائيات يُلعلع. والأهم من هذا كلّه أنّ ماكرون أوحى أنّ مقاربته للواقع اللبناني عقلانية جداً، وإذ بالأيام تؤكد أنّه يريد أن يُربح الولايات المتحدة والسعودية في السلم ما عجزوا عن ربحه في الحرب.
فهو يريد تشكيل سعد الحريري لحكومة تعيد العقارب إلى زمن الأحادية الحريرية المطلقة في الحكم. وليس المستهدف بهذا كلّه هو التيار الوطني الحر أو رئيسه، كما يوحي بعض الإعلام السخيف، إنّما حزب الله حصراً.
وقد سمع بعض المبعوثين الفرنسيين إلى لبنان، إضافة إلى سفيرتهم، كلاماً واضحاً وصارماً بهذا الشأن، يُفترض أن يسمعه الوزير المتباهي بغبائه، جان إيف لودريان، مثلهم وأكثر في لقاءاته الرسمية المقبلة.
المبادرة الفرنسية انتهت، والكلام البروتوكوليّ المنمّق لن يغيّر شيئاً على الاطلاق. ليس الأفرقاء اللبنانيين من أنهوا المبادرة إنّما الخفة الفرنسية أولاً؛ الإنحياز الفرنسي لفريق لبنانيّ فاسد ثانياً، والإعتقاد الفرنسي ثالثاً، أنّ التهويل أو الترهيب والترغيب يمكن أن ينفع.
وهنا يُفترض بأجهزة الاستخبارات الفرنسية أو الأجهزة الدبلوماسية الفرنسية أن تعلّم الأستاذ لودريان أنّ العقوبات التي يهدّد بها التيار الوطني الحر وحزب الله وحلفاءهما أسخف من السخافة، وما عليه إذا كان يوّد تجنب بهدلة إضافية بعد بهدلة الاتحاد الأوروبي سوى أن يجد شيئاً آخر يتحدث بشأنه.
روسيا إلى الواجهة
في السابق، كانت تُحظى حفلات التهريج الفرنسية بمشاهدين أو مستمعين؛ أمّا اليوم، فسار قطار التسوية الدولية بين الولايات المتحدة وإيران في ظل موقف فرنسي سلبيّ، فيما يسير قطار التسويات الاقليمية السوريّ – الخليجيّ والإيرانيّ – السعوديّ في ظل موقف فرنسيّ سلبي أيضاً؛ وقد حال الموقف الفرنسيّ السلبيّ دون نضوج المبادرة الفرنسية، فانتقل الدور والمهمة إلى موسكو.
موسكو التي تحضّر بهدوء لمبادرتها موجودة في المنطقة؛ وبعكس فرنسا، ليست جزءاً من منظومة الفساد اللبنانيّ. وروسيا، لا تقاطع فريقاً لبنانياً وتتشاطر على آخر، وتهدّد طرفاً ثالثاً؛ بل تحاول أن تكون على مسافة واحدة من الجميع. والأهم الأهم أنّ خارجيتها لا تتسّم بشيء من التباهي الفرنسي بالعنجهية والفساد والسياسات الخاطئة.
غسان سعود