مجتمع

في يوم الأرض افتقدنا سهام القنطار وجميلة ناصر: رواية أول اتصال هاتفي بين الأسير أنور ياسين ووالدته

على مشارف نهايات القرن الماضي كانت المقاومة العسكرية في جنوب لبنان تتصاعد نوعياً وتفرض معادلات جديدة على الأرض، مقاومة مدعمة بالقوة الشعبية الحاضنة، وكانت بذلك تطرد الاحتلال وتسقط نموذج لبنان القديم وتعمل لصياغة التحول الكبير في الميزان من “قوة لبنان بضعفه الى قوة لبنان بمقاومته” وهكذا تحول لبنان من مكسر عصا للعدو الى قوة مركزية في المنطقة.
على خطٍ موازٍ كان التحول في ثقافة الوعي والثورة الحقيقية في الرأي العام يتصاعد، وكان لذوي الأسرى ورفاقهم والأصدقاء الدور الأكبر بطي صفحة الهزيمة وخلق البديل المعنوي بتصعيد الضغط الاعلامي وكسب الرأي العام لمساندة القضية، وكان لهذه القضية نجومها البواسل في مخاطبة الداخل اللبناني والخارج.
في صورة تلك المرحلة لا يمكن أن ننسى صور أمهات الأسرى برحلاتهن النضالية اليومية، في الشق الأول بتحصين الداخل وحمايته وثانياً بمخاطبة الخارج العربي والأجنبي،

في تلك الصورة كان لنا نجماتنا المتلألآت، أمهاتنا الجميلات سهام القنطار وجميلة ناصر وغيرهن الكثيرات، تلك النسوة ظهير المقاومة وعصبها المشدود على التحدي،
وكانت تلك النسوة ورفاق النضال المدني ذخيرة حية لدعم الاعلام المقاوم وتصعيد المواجهة مع المحتل، وقد تعلمت هذه المجموعة تقنيات مخاطبة الرأي العام، واستمدت من حق القضية مادة دسمة للتأكيد والإقناع وكيفية استخدام المصطلحات المناسبة، فكيف لنا أن لا نعود الى تلك الأيام دون سماع صوت ورؤية ام أنور(أم علي ياسين والدة الأسير أنور).
في كل مناسبة كانت الجميلة جميلة ناصر لحضورها وقعٌ، هي أيقونة النشاط شبه اليومي للدفاع عن الأبطال المقاومين، من ساحات لبنان العامة الى ساحة مركز الامم المتحدة في وسط البلد الى رصيف مكتب الصليب الأحمر الدولي في الحمرا الى مكتب لجنة المعتقلين في كورنيش المزرعة… في كل مكانٍ وزمان وحيث تدعوا الحاجة.
ربما يحتاج الحديث عن هذه المرأة الحديدية لصفحات وصفحات، تلك المرأة الجنوبية، إبنة الدلافة، كما زميلاتها في تلك الأرض المقدسة والعزيزة، الهادئة، السلسة، الراوية للأخبار والأحداث بلهجة ولكنّة نساء القرى الحدودية، وكانت تحضر الى النشاطات بلا صورة أنور “ما كل الأسرى ولادي… متلن متل أنور”،
كانت صديقة الجميع المشاركين الدائمين والموسميين، الأصدقاء والأقارب، الاعلاميين وكل المشاركين، حتى انها كانت ترحب برجال الأمن المرافقين لكل نشاط وتمطرهم بالسلام والسؤال عن الحال والأحوال.
كان الجميع يعرفها وهي تعرفهم، يترافق حضورها مع صورة الأم الحنون المحترقة شوقاً لرؤية ولدها الأسير أنور، تتحدث باستمرار عنه “كما كل رفاقه الذين رفعوا رأس الأمة” هذه المرأة الهادئة رغم عجقة حضورها، لا يمكن تخيّلها في غير دور الأم الحنون المحترقة شوقاً على أسر فلذة كبدها.
هذه الصورة لا يمكن تخيّل نقيضها، لنفاجأ في لحظة وقد تحولت أم علي الى لبوة ذات الشكيمة القوية جعلت الجميع مشدوهين حائرين في توقيت توقعناه عكس ذلك: أول اتصال هاتفي بين أنور ياسين ووالدته بعد 12 عاماً من الاعتقال في سجون العدو.
كان ذلك في العام 1999 حين أبلغت المقاومة ذوي الأسرى عن توفير إمكانية التواصل معهم هاتفياً داخل السجن، عملية معقدة تحتاج للتواصل مع هواتف في أوروبا ومن ثم يتحول الاتصال الى داخل بعض السجون في فلسطين المحتلة.
وصلنا الى منزل العائلة في الرميلة، نحن “الرفاق” في لجنة متابعة المعتقلين في السجون الإسرائيلية، بعدما طلبنا حضور جميع أفراد العائلة دون إخبارهم بالسبب، وكان بسام القنطار يحمل السر الكبير والمفاجأة: سنتحدث اليوم مع أنور وسمير والشباب مباشرةً بداخل سجن نفحة.
ام علي اعتبرت في البداية الأمر مزحة “يا بني رسائل الصليب الأحمر ما عميوصلو كيف بتحكيني عن اتصال واسمع صوتن” وكان همنا جميعاً كيفية تقبلها واستيعابها لمثل هذه الصدمة، وجميعنا يوجه الحديث اليها كي تُشعر أنور بالمعنويات العالية وان لا تبدو ضعيفة او حزينة وكان ردها ساخراً بأن “الأمر مزحة وانا لا أصدق”.
تولى بسام العمل على طلب الأرقام والتواصل لأكثر من نصف ساعة…، رفع سماعة الهاتف وأشار بيده لنجاح العملية، صمت الجميع بذهول حين سمعنا صوت سمير القنطار يلعلع بلكنته الفلسطينية لتتحول وجوه الحاضرين الى لامعة مع تساقط الدموع: أهلاً أهلاً اش الأخبار؟ انت وين؟… أنا عند بيت أنور وبدنا نحكي معو…. فطلب سمير سماع صوت ام أنور والاطمئنان عليها.
لحظات سريعة وثقيلة سمعنا صوت أنور من خلال الهاتف “كيفك يما؟”…
هنا رفعت السيدة ام علي جسمها المثقل عن الكنبة وردت بصوت مرتفع “يا حبيبي صرت تحكي فلسطيني…. شو أخبارك يا امي؟” فشعرنا جميعاً بغصة أنور الحساس… انخفض صوته قليلاً وتلعثمت كلماته بالرد، لتكون لنا المفاجأة: هذه ليست المرأة التي نعرفها حين لمعت عيناها بالقوة والصلابة كما لم نرها سابقاً وبدأت خطابها بصوت مرتفع.
“أنور اسمعني منيح يا امي
أنا وابوك ارسلنا الى الجبهة بطل ما بيهاب الموت
ارسلنا الى الجبهة رجّال بيدعس على الصخر بيفتّتو ونحنا فخورين فيك
اياك تضعف او تتراجع مهما عملو فيك هالكلاب
اياك ما تهتم برفاقك وكل واحد معك بالمعتقل امانة برقبتك ورقبتنا كلنا
ما تخليني للحظة حس انك ضعيف او متراجع
ما تخلي الكلاب للحظة يشمتوا فيك او فينا
هون شباب المقاومة مسحو الارض بأكبر راس فيهن وبعملاءن
نحنا هون بألف خير وكل شي تمام وما منطول حتى نلتقي نحنا وياك بضيعتنا المحررة
شد حالك وسلم على الشباب كلن وبدي معنوياتكم تبقى بالسما
نحنا منتصرين وصامدين لو شو ما صار”…..
هكذا حولت ام علي لحظة التأثر العاطفي الى مصدر قوة وعزيمة في دعم الأسرى، لا بكاء ولا دموع الوهن في تلك اللحظة… بل دموع الفرح والكبرياء.
في هذه اللحظات الأليمة نفتقد تلك العزائم الصلبة، سهام القنطار وجميلة ناصر وام جبر وشاح وغيرهن الكثيرات من نساء بلادنا التي ترفض الذل والهوان وقد أعطت معنىً للكرامة والنبل والحرية.
تعازينا الحارّة للأصدقاء والأهل وكل المقاومين….
والرحمة للشهداء

عامر ملاعب

كاتب وصحافي لبناني، يحمل شهادة الدبلوم في التاريخ من الجامعة اللبنانية، عمل في صحيفتي الأخبار والحياة. أعد وقدم برامج في قناة الثبات الفضائية، وإذاعة صوت الشعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى