أهمية إيران لدى الصين: هنا يبدأ النظام العالمي الجديد
لم يكن توقيع الاتفاقية الصينية-الإيرانية مفاجئًا لمن يرصد مسار العلاقات بين بكّين وطهران، بالتزامن مع متابعة السياسات الأميركية القلقة من تمدّد النفوذين، الأصفر عالميًا والآخر إقليميًا. يُقال عند الاقتصاديين الغربيين إنّ أهمّ دافع لإيصال الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما إلى البيت الأبيض كان سعي الدولة الأميركية العميقة للحدّ من الانهيار المالي في الولايات المتحدة، فلم ينجح. ثم جاء بعده دونالد ترامب للغاية نفسها، فنجح في فرملة الانهيار، لكنّ المسار الاقتصادي العالمي الذي تقوده الصين عمليًا هو أشدّ قوّة من أي إجراءات أو محاولات أميركية مهما عظُمت. ومن هنا تنبع حقيقة السياسات العدائية الأميركية تجاه الصين:
تبنّى أوباما مبدأ “الاتجاه شرقًا” واعتماد مبدأ تطويق بكّين وعزلها دوليًا، مقابل تمتين العلاقات مع اليابان وكوريا الجنوبية وتايلاند، وإقامة شراكات مع دول مجاورة للصين: بروناي وبنغلادش وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة. ثم اشتدّت الحملة الأميركية على العملاق الصيني أيام ترامب الذي حاول الحدّ من تمدّد بكّين، عبر كل الوسائل السياسية والتجارية والمالية الاقتصادية، توّجها بفرض رسوم تجاوزت 30% على الصناعات الصينية، ثم رمي كرة مسؤولية فايروس كورونا في الملعب الصيني، لشيطنة بكّين عالميًا. غادر ترامب البيت الأبيض من دون أن ينجح في خطواته، وأتى بعده جو بايدن رئيسًا أميركيًا يحاول الحدّ من توسّع نفوذ العملاق الصيني وحليفه الروسي. يُقال هنا أن جزءًا من التودّد “البايدني” لطهران ومحاولة التسويق السياسي للمفاوضات المطروحة بين الأميركيين والإيرانيين هو بهدف الحدّ من التعاون الصيني-الأميركي الموجود ضمنيًا بين البلدين. لكنّ الأميركيين صُعقوا بمضمون وتوقيت الاتفاقية الإيرانية- الصينية التي تشكّل إطاحة عملية بكلّ أهداف العقوبات الاقتصادية على إيران.
تعود العلاقات بين بكّين وطهران لعقود مضت، رغم ضعفها خلال فترة حُكم الشاه بسبب توجهه لاعتماد الغرب سندًا له في سياساته العالمية. لكن عندما اعترفت الصين بحركة تأميم صناعة النفط الإيراني في الخمسينيات، اعترفت إيران بالمقابل بجمهورية الصين الشعبية عام 1967، واللّافت أن الرئيس الصيني الأسبق هوا جيو فينج كان آخر زائر أجنبي للشاه في طهران عام 1978، قبل ثورة الإمام الخميني عام 1979.
بعدها سارعت بكّين للاعتراف بالجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد نجاح الثورة، ووقفت إلى جانبها في حربها مع العراق، عبر تزويدها بالسلاح، بينما كانت طهران تعاني من قرار حظر تصدير الأسلحة إليها نتيجة أزمة الرهائن في عام ولادة الثورة. تطوّرت العلاقات بشكل سريع بين البلدين، ليتبيّن أن إيران تكتسب أهمية استراتيجية بالنسبة إلى الصين، شكلّت دافعًا للتعاون معها وصولًا إلى توقيع الاتفاقية التاريخية بين قوّتين عالمية وإقليمية منذ أيام.
أوّلًا، تُعتبر إيران موردًا نفطيًا اساسيًا بالنسبة لبكّين، بعد تطوّر الاقتصاد الصيني نتيجة الثورة الصناعية التي حقّقتها رؤية دينغ شياو بينغ.
ثانيًا، تُعدّ الجمهورية الإسلامية عبر موقعها الجغرافي في غرب آسيا، ممرًا رئيسيًا لطريق الحرير، لنقل السلع الصينية إلى دول وسط آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا، ونقل المواد الخام في المقابل إلى الصين. ويشكِّل الموقع الإيراني أهميةً جيو-سياسية لبكّين، نتيجة الإطلالة على أهم مسطحاتٍ مائية استراتيجية، هي الخليج والبحر العربي والمحيط الهندي وبحر قزوين، ممّا يجعل إيران حلقة وصل بين الشرق والغرب، وممرّ طبيعي للتجارة العالمية، وتشكِّل جسرًا يربط وسط آسيا ومشرقها أولًا، وغرب آسيا وشرق البحر المتوسط. يحدّها من الشرق باكستان وأفغانستان، ومن الشمال تركمانستان، ومن الجنوب الغربي الخليج، ومن الغرب العراق وأذربيجان وأرمينيا وتركيا وبحر قزوين.
ثالثًا، تحاول بكّين أن توسّع علاقاتها مع كلّ الدول التي تناهض الولايات المتحدة الأميركية، وهي بالتالي تدخل عبر إيران إلى الإقليم كقوّة عظمى لملء فراغ أحدثه ضعف الأميركيين في منطقة الشرق الأوسط الحيوية، بكلّ ما تحتويه من مكاسب اقتصادية، ومزاحمة الدور الأميركي في ساحة مهمة.
لذا، اندفع الصينيون نحو إقامة اتفاقية تاريخية مع الإيرانيين تدشّن النظام الاقتصادي والسياسي والعسكري العالمي الجديد. واذا كان بايدن بدأ بخطوات ترسيخ حلف دولي لحظة وصوله إلى البيت الأبيض، مع اليابان وأستراليا، تحضيرًا لتوسيعه، فإنّ الصين دشّنت الحلف الآخر مع روسيا وإيران، بانتظار إنضمام الهند ودول كبرى. ومن هنا تُصبح إيران ركيزة حلف دولي صاعد أثار قلق الإسرائيليين الذين سارعوا إلى التعبير عن قلقهم المتعاظم من ازدياد قوّة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
عباس ضاهر