منوعات

كارثة المرفأ… خرائط جديدة وسط تحديّات عاصفة

في الوقت الذي يشارف فيه الأسبوع الثاني على زلزال تفجير مرفأ بيروت من نهايته، وعلى الرغم من وعود الحكومة بظهور نتائج التحقيق خلال خمسة أيام، لا يزال التخبّط سيد المواقف بظلّ توافر التصريحات المتناقضة، وسيطرة بث الأخبار الكاذبة الشغل الشاغل لوسائل التواصل الإجتماعي.
وزاد الأمر تعقيداً وزادت الأجواء ضبابية في مرحلة شديدة التعقيد تتطلب الكثير من الوضوح والإجابة على مجموعة من الأسئلة، كي توضح حقيقة ما جرى في الانفجار الذي خلّف آلاف الشهداء والمفقودين والجرحى، بالإضافة إلى الدمار الذي أصاب المرفأ وامتد إلى المناطق المجاورة، تاركاً أكثر من ثلاثمئة ألف مشرد وخسائر تقدّر بالمليارات لم يحدد رقمها حتى اليوم. ولو كان الغموض لا يزال سيد الموقف ويفسح بالمجال لطرح أسئلة جديدة، إلاّ أنّه كرّس حقيقة لا يمكن طمسها أو تجاوزها…
إلى ذلك، يتم تداول مقولة مفادها أنّ ما بعد الرابع من آب ليس كما قبله، وأنّ كمية الدماء التي هدرت وحجم الخراب الذي عمّ، والتداعيات التي خلّفها لا تسمح بتدوير الزوايا. وأصبح من الضروري إيجاد حلول وسط الزلزال الذي حصل، مّما يتطلّب فرض أشد العقوبات على المجرمين سواءً كان السبب جريمة مدبرة أو إهمالاً، علماً أنّ القناعة تتزايد يوما بعد يوم بأنّها حادث مدبر بعد كمية الأحداث التي حصلت قبلها ومعها وبعدها، إذ لا يمكن أن تكون الصدف لوحدها قد فرضتها.
وتجدر الإشارة أنّ المساعدت التي وصلت من فرنسا وبريطانيا وتركيا والإدارة الأمريكية بواسطة حاملات طائرات وسفن حربية تضم أعداداً كبيرة من العسكريين، بالإضافة إلى البوارج التي تمركزت في المرفأ وبعض مناطق بيروت، تبشّر بأنّ ما حدث في المرفأ سيطال المطار والحدود اللبنانية-السورية لتعزيز حصار سوريا. ناهيك أنّ كل ما سبق تزامن مع إعلان ديفيد هيل أنّ “محققون من مكتب التحقيقات الفيدرالي سيشاركون في التحقيق وأنّ بومبيو سيزور بيروت قريباً”. كل ذلك من شأنه أن يقلّص ثقة اللبناني بتحقيق دولي ترعاه واشنطن، حيث سيؤدي إلى استبعاد أي إمكانية للحديث عن دور صهيوني مشبوه تماماً كما حصل في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. كل هذا يترافق مع الحقيقة القاضية بالتركيز على سلاح المقاومة الذي يسعون لإلقاء كل الفساد على عاتقه.
الأمر الوحيد الجديد واللافت على شاشة المشهد السياسي كان كلمة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لمناسبة الذكرى الرابعة عشرة لدحر “إسرائيل” في حرب العام 2006.
في كلمته تطرّق السيد نصرالله إلى قضايا متعددة؛ لفت في بعضها إلى الحدث الجديد في قوله إنّ ثمة فرضيتين حول أسباب الانفجار في مرفأ بيروت، موضحاً: إمّا أن يكون عَرَضياً أو تخريبياً. وأشار السيد نصرالله إلى أنّ قيادة المقاومة تنتظر نتائج التحقيق، مستدركاً “اذا ثبت أنّ الانفجار كان عَرَضياً فيجب محاسبة المسؤولين عن هذه الفاجعة، وإن كان تخريبياً فيجب البدء بالتحقيق حول مَن يقف خلفه. وشدّد على أنّ المقاومة لا يمكن أن تسكت على جريمة كبرى بهذا الحجم، مضيفاً إذا كانت “إسرائيل” قد ارتكبتها، فإنّها “ستدفع ثمناً بحجم هذه الجريمة الكبرى “.
موقف نصرالله الجاد والحاسم استوقف القادة السياسيين والعسكريين في لبنان، ولا بدّ أنّه حُظي أيضاً باهتمام وقلق بالغين لدى “إسرائيل”، ذلك أنّ حالة التأهب العسكري في منطقة الجبهة الشمالية مع لبنان كانت قد بدأت بالتراجع عشية كلمة نصرالله بحسب صحيفة “معاريف” (2020/8/14) التي قالت “بدأ الجيش الإسرائيلي بخفض قواته ومنح الجنود أذونات بالعودة الى منازلهم”. وربما أعادت قيادة الجيش النظر بقرارها هذا بعد الوعيد الذي أطلقه نصرالله وإن كان تنفيذه يبقى محكوماً بنتائج التحقيق التي لا يبدو إعلانها وشيكاً.
القيادة العسكرية الإسرائيلية لن تنتظر، بطبيعة الحال، إعلان نتائج التحقيق لأنّها حريصة على أخذ مواقف نصرالله وتهديداته على محمل الجدّ. لعلّها ستبادر إلى التشديد على الأميركيين بوجوب تسلّم إدارة التحقيق في الإنفجار وملابساته، خصوصاً بعدما أعلنت إدارة ترامب رسمياً بلسان هيل مشاركة عناصر مكتب التحقيقات الفدرالي FBI في التحقيق، ما سيمكّنهم من إبعاد اي مسؤولية لـِ “إسرائيل” عن الإنفجار.

لكن ماذا لو أخفق المحقّقون الأميركيون في حجب الأدلة والشواهد التي تشير الى انخراط “إسرائيل” في تفجير مرفأ بيروت ؟
قادة “اسرائيل” سيضعون بالتأكيد هذا الاحتمال في حسبانهم وسيحطاتون لتداعياته. في هذا السياق، لا بدّ استوقفهم_ليس وعيد نصرالله بأنّ المقاومة لن تسكت على جريمة كبرى بهذا الحجم فحسب، بل تأكيده أيضاً بأنّ “إسرائيل ستدفع ثمناً بحجم هذه الجريمة الكبرى في حال هي ارتكبتها”.
كما هو معلوم حجم الجريمة كبير: نحو 200 شهيد، و6000 جريح، ومئات المفقودين، ودمار معظم أقسام المرفأ والمساكن والمرافق في الأحياء والشوارع المحيطة به، في دائرة لا يقل محيطها عن خمسة كيلومترات. وبحسب تقديرات البنك الدولي أدّى الإنفجار إلى تضرّر نحو 50 ألف وحدة سكنية، وبات نحو 300 ألف شخص بلا مأوى، فضلاً عن أضرار لاحقة بثلاثة مستشفيات خاصة ومستشفى حكومي واحد كانت تقدم خدمات لنحو مليون شخص، بالإضافة إلى الركود القاسي الناجم عن الأزمة الإقتصادية والخسارة الكبيرة في إيرادات الخزينة المتأتية من المرفأ، لاسيّما إنخفاض الرسوم الجمركية، ناهيك عن تفاقم كلفة الإستيراد وازدياد معدلات التضخم بما يتراوح بين 6,9 في المئة و 12,3 في المئة، بظلّ تزايد نسبة الفقر المدقع المتوقع بلوغه 45 في المئة. في المجمل، قدّر خبراء صحيفة “نيويورك تايمز” كلفة الأضرار بنحو 15 مليار بليون دولار.
عندما يتوعّد السيد حسن نصرالله “إسرائيل” بتدفيعها ثمناً بحجم جريمتها الكبرى، فإنّ السؤال الذي يتبادر للجميع هل لدى المقاومة في لبنان أسلحة تمكّنها من تدفيع “إسرائيل” ثمناً لجريمة يربو حجمها وكلفتها على 15 مليار دولار ؟
تقتضي الإشارة إلى أنّ لنصرالله مصداقية معترفاً بها حتى في “إسرائيل”، فلا يعقل أن يكون قد وعد جمهوره بأمر لا يستطيع إنجازه. هذا الإستنتاج يقود الى أمرٍ أكثر دلالة وهو أنّ نصرالله يملك أسلحةً متطورة بمقدورها تنفيذ وعيده وبالتالي إلحاق اضرارٍ وخسائر بشرية ومادية هائلة بـ”إسرائيل” تضاهي تلك التي ألحقتها بلبنان.
وعليه، من المرجح أن تتوصّل الولايات المتحدة، ومن ورائها “إسرائيل”، إلى مثل هذا الإستنتاج الخطير وبالتالي إلى قيام إدارة ترامب بإعتماد أحد النهجين:
– مرونة أكثر إزاء حزب الله والمقاومة وتسامح أكبر مع حكومة لبنان في موقفها من مسألة ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، وتعاطف أوفر معها في مسألة التنقيب عن النفط والغاز في المقطع Block9 المجاور للمنطقة البحرية التي تستثمرها “إسرائيل” وتحاول توسيعها لقضم المزيد من المنطقة الإقتصادية الخالصة للبنان.
– تصلّبٌ اكثر إزاء حزب الله وحلفائه المحليين ولا سيما العونيين، في محاولةٍ مكشوفة لممارسة مزيد من الضغط في سياق حربها الناعمة وعقوباتها الإقتصادية المتواصلة ضد إيران وحلفائها الإقليميين .

نبيل المقدم

نبيل المقدم

كاتب وصحافي وباحث سياسي لبناني. صدر له العديد من المقالات والمؤلفات ابرزها "وجوه واسرار من الحرب اللبنانية".

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى