تداعيات الانهيار في لبنان على دبلوماسيّيه: قلق وترقّب
الجسم الدبلوماسي لأي دولة سيّدة هو أداتها الرئيسة في نسج العلاقات مع الدول وصياغة وتطبيق سياساتها الخارجية إلى جانب خدمة مواطنيها في الخارج. أما في دولة اللادولة في لبنان حيث المحسوبية والزبائنية تطغيان على الكفاءة والإنتاجية في المناقلات والتعيينات وحيث لا رسم للسياسات بما فيها السياسات الخارجية على وقع الإنقسامات الداخلية وطغيانها على العمل المؤسساتي، فلطالما دفع الثمن الدبلوماسيون العصاميون الذين دخلوا بكفاءاتهم الى ملاك الخارجية وعملوا بجهد على تعزيز قدراتهم أمام من كان لولاءاته السياسية الأولوية على الولاء الوطني أو من أدخل من خارج الملاك، أكان في المناقلات أو التشكيلات – التي كانت لا تبصر النور إلا بعد تقاسم الحصص والتوزيعات على عواصم القرار بين اللاعبين الأساسيين في الطبقة الحاكمة – أو في بقاء بعضهم خارج لبنان أكثر من الفترة القانونية.
ففي معظم الأحيان، لم تحترم السلطات المتعاقبة منذ إتفاق الطائف روحية المادة 17 من النظام الداخلي لوزارة الخارجية وشروطها والتي منحت مجلس الوزراء صلاحية تعيين سفراء من خارج الملاك، مشترطة مراعاة عددٍ من الضوابط منها:
* أحقية التصنيف تُعطى لمن هم في الملاك أولاً.
* إختيار شخص من خارج الملاك يجب أن يكون لمواجهة ظروف استثنائية تتطلب خبرات ذات قيمة مضافة، أو تكريماً لشخصية مرموقة كانت لها أيادٍ بيضاء وعطاءات على حجم الوطن.
* يُعتبر السفير من خارج الملاك مستقيلاً حكماً عند إنتهاء ولاية رئيس الجمهورية الذي عيّنه ويستمر بعد ذلك في تصريف أعمال البعثة لمدة لا تتجاوز الشهرين حتى إذا انقضت ولم يصدر مرسوم بإعادة تعيينه عليه المغادرة خلال شهر.
اليوم “المصيبة بتجمع” حيث أن إرتدادات الإنهيار المالي والإقتصادي تهدّد كل الجسم الدبلوماسي اللبناني. الأمين العام السابق لوزارة الخارجية بالوكالة السفير السابق بسام النعماني يوضح لـ”أحوال” أن “رواتب الدبلوماسيين اللبنانيين بالليرة اللبنانية لمن هم في الداخل (وهي فقدت قيمتها جراء إرتفاع الدولار أكثر من ستة أضعاف منذ بداية الأزمة في خريف 2019) وبالدولار الأميركي لمن هم في الخارج”، مشيراً الى أن مصاريف البعثات لا تقتصر على الرواتب، فهناك إيجارات المقرات غير المملوكة من الدولة اللبنانية ومصاريف الكهرباء والماء والحاجات المكتبية.
القلق على الرواتب
في المقابل، وفي ظل تخوّف الدبلوماسيين في الخارج من تفاقم الأزمة الإقتصادية الى حدّ العجز عن سداد رواتبهم بالدولار جراء النقص الحاد بالسيولة بالعملة الاجنبية بالتزامن مع ما يتردّد عن أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أبلغ مراراً وزير الخارجية شربل وهبة بضرورة عصر نفقات البعثات الديبلوماسية وعدم إمكانية المصرف المركزي الإستمرار طويلاً بسدادها وفق حجمها الحالي، يلفت النعماني الى أن السفارات تأخذ رسوماً على خدماتها القنصلية ويختلف مستوى هذه المداخيل بمدى حجم الجالية اللبنانية وهي تحوّل إلى مصرف لبنان بشكل دوري، ويردف: “هناك سابقة في زمن الحرب في السبعينات والثمانينات حين شهدنا مشاكل في التحويلات، فأعطي الأذن بأخذ سلفات منها من قبل البعثات على أن تسددّ لاحقاً”. وهنا السؤال هل يرضى سلامة بإعتماد هذه الخطوة وهو الذي يبحث عن أي دولار يمكنه وضع اليد عليه؟!!
كذلك، يشير النعماني الى أن أزمة فقدان العملة لقيمتها ترخي بثقلها على السفراء المتقاعدين، فهم يخيّرون بين الحصول على تعويض نهاية خدمة أو معاش تقاعدي والأكثرية يختارون المعاش الذي يقارب 3 ملايين ليرة أي كانوا يتقاضون 2000 دولار واليوم أصبحت القيمة 300 دولار( بعضهم يقضي تقاعده خارج لبنان وأصبح راتبه لا يسمح له بالعيش الكريم).
سبل عصر النفقات وإعادة الإنتشار الدبلوماسي
من الخطوات التي قد تعتمدها الدول لعصر النفقات في الأزمات إعادة إنتشارها الدبلوماسي. هناك سفارات في دول ككازخستان والأوروغواي والباراغواي وقنصليات كقنصلية الإسكندرية حيث توجد سفارة في القاهرة أصبحث ترفاً، وقد إقترح وهبة إغلاق 27 سفارة وقنصلية لبنانية في الخارج تخفيفاً للأعباء ولمحدودية جدواها ولكن العائق الأساس أنه لا يمكن اللجوء الى هذه الخطوة في ظل حكومة تصريف أعمال، فإغلاقها بحاجة الى مرسوم من مجلس الوزراء بحسب النعماني.
كذلك يشير الوزير وهبة في تصريح الى أن الحاجة إلى الملحقين الإقتصاديين في السفارات اللبنانية في الخارج – وعددهم 18- إنتفت في الأوضاع الراهنة، لأنه “لم يعد بإمكانهم سوى تقديم بعض المسكّنات التي لا تفيد مرحلة الانهيار الاقتصادي”، لكن هكذا قرار يتطلب أيضاً وجود حكومة أصيلة.
“ما يشاع يومياً عن إنهيار الدولة كلياً وتعثرها يشكل ضغطاً نفسياً على الدبلوماسيين القلقين كما جميع اللبنانيين على مستقبلهم في ظل المرحلة الإقتصادية والسياسية الدقيقة التي نمر بها والإرتفاع الجنوني لتكاليف الحياة اليومية” يؤكد النعماني، لذا يدعو الى التوصّل سريعاً لحل من أجل تأليف حكومة وإطلاق المسار الإنقاذي.
كما يلفت الى أن ضغطاً عملياً في العمل ينتظرهم في ظل النقص في أعداد الدبلوماسيين جراء التقاعد وعدم إجراء مباريات دخول نظراً للاوضاع القائمة والشواغر المتزايدة وعدم إمكانية التعيين من خارج الملاك في ظل تصريف الاعمال.
الشغور يستشري في مواقع السفراء
في هذا الإطار، بدأ الشغور يخيم على مركز سفير لبنان في أكثر من 10 دول حيث القائم بالأعمال على رأس السفارة في اليونان والأردن والكويت والبرازيل فيما السفارة في واشنطن على موعد مع الشغور الشهر المقبل. كذلك سيشغر موقع السفير في قطر، جاكارتا، سيراليون، ساحل العاج، الكونغو، كينشاسا وصولاً الى سوريا بعد 10 أشهر. لذا المخرج بحسب السفير النعماني إما إجراء تشكيلات دبلوماسية إستثنائية فينقل سفير حالي من مركزه في الخارج إلى واشنطن ( كما حصل عام 2007 في ظل الفراغ الرئاسي) أو يكون الأعلى رتبة في السفارة رئيس البعثة أو ينتدب وزير الخارجية دبلوماسياً بصفة “سفير بمهمة”.
لكن السؤال الأساسي هل المناخ السياسي المتشنج القائم سيحول دون تطبيق أي من هذه الحلول، خصوصاً في ظل أهمية المركز الذي سيشغر في وشنطن والصراع المتوقع عليه بين أهل السلطة وسعي “التيار الوطني الحر” الى تكريسه له – بعدما كان أتى سابقاً بالسفير غابي عيسى – فيما رئيس التيار تحت العقوبات الاميركية؟!
هل نشهد إستقالات في الجسم الدبلوماسي؟
لا إمتيازات للدبلوماسيين اللبنانيين، فلا تأمين صحياً ولا مساعدات تعليمية لهم وحتى في حالات الوفاة لا يحصلون على مساعدة، وهذا ما يؤكده النعماني. صحيح أنه يلفت الى أنه يحق لهم تقديم طلب على تعاونية موظفي الدولة، لكنه يشير الى أن مساعدات التعاونية زهيدة في ما يتعلق بهذه المصاريف متى كان الدبلوماسي في الخارج لذا يضطر هذا الأخير الى إجراء بوالص تأمين من حسابه الخاص ويتكبّد تكاليف التعليم.
في ظل هذه الأعباء المادية، وتدهور الوضع المالي والاقتصادي وتخلف الدولة اللبنانية عن سداد الرواتب، هل نشهد إستقالات في الجسم الدبلوماسي و”فراراَ” الى القطاع الخاص؟ يجيب السفير النعماني: “كان هناك في السابق إستقالات لأسباب إقتصادية أو خاصة، ولكن لا تتعدى حدود أصابع اليد الواحدة أم اليوم فلا أحد يعلم كيف ستتجه الأمور”.
رغم الظروف الصعبة والضغط والقلق الذي يعيشه، يمكن للحضور الدبلوماسي اللبناني في الخارج عبر شبكة علاقاته أن يشكل أداة دعم لأي خطوة إنقاذية للبنان وأن يساعد سياسياً وإجتماعياً وإقتصادياً، ولكن المطلوب أولاً أن تكون هناك رؤية للحلّ وأن تضع السلطة طرحاً رسمياً للخروج من الازمة.