هل خانت الحكمة لقمان؟
ابن الضاحية لقمان سليم ذو الحياة الإشكاليّة قضى نحبه في جنوب لبنان، في ختام زيارة بعض الأصدقاء، فما كان من الشعبويّين إلا أن اغتنموها سانحةً حتى يُفرغوا مقتهم، وتبادلوا الاتّهامات بالمسؤوليّة عن مقتل لقمان، في ظلّ سلطة ضعيفة، وعدالة مسترخية، ومنصّات تواصل اجتماعيّ وجيوش إلكترونيّة وشاشات إعلام جماهيري تستبيح القيم وحقوق الجمهور.
لقمان والتنوير الإشكاليّ
لقمان إشكاليّ لأنّه اعتبر نفسه تنويريّاً في بيئةٍ شاكَسَها منذ أمدٍ بعيدٍ؛ واتّجه غرباً قبل ذلك وبعد ذلك، وحين اختارت الاتّجاه شرقاً؛ ثمّ نادى بالتّطبيع مع “إسرائيل” في خضم معركةِ وجود؛ والأنكى أنّ خطابه – وكذلك نصّه – لم يكن حمّالَ أوجه، وهو الحريص على تشكيل حروفِه وكلماتِه، وعلى صياغةِ جُمَلِه، إلقاءً وكتابةً، حتَّى لا يكاد يُخطئ في تعبير.
في الضّاحية أقام لقمان مسرحَ عمله، ابتداءً من دارة العائلة، في الغبيري، حيث أنشأ “الهنغار”، ومن ورائه جمعيّة “أمم للدراسات والتوثيق”، فصبّ جزءاً كبيراً من اهتمامه على توثيق الحرب الأهليّة والمجازر التي نكبت لبنان. وطال اهتمامه عالم السّجون وظلمات الأقبية، فكان شريكاً في إحياء ذاكرة لبنانيّة مجروحة، وفي التأريخ للبنان المعاصر.
من البيئة الشيعيّة حتى العلمانيّة الملحدة
في “الهنغار” أقيمت ندوات نقدٍ فنيّ، ومعارض، ولقاءات فكريّة، فكانت ذات مستوى حداثيّ، واستقطبت جمهوراً متنوّعاً، بخلاف خطابه الحادّ مضموناً، السّلس صياغةً؛ وهو الذي لم يتحلَّ بالدبلوماسيّة في التّعبير عن معاداته للقوى النّافذة، التي تتقاسم خريطة السّلطة في بيئته الشيعيّة.
ما بين مَنْبَته الإسلاميّ الشيعيّ وانتمائه اليساريّ الإلحادي فقربه من البعثات الغربية، حاول لقمان أن يسبقَ إلى دورٍ رياديّ، فوقع في إشكاليّة الدّور والانتماء.
في “أحوال”، استطلعنا بعضاً من عالم لقمان الفكريّ مع عدد من المطّلعين، وكان الآتي خلاصة استطلاعنا.
د. رزق: كان لقمان يسارياً متطرّفاً
ترى د. هدى رزق (أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي) في حديث لـ “أحوال” أن “لقمان سليم لم ينتمِ مرّة إلى مفهوم الجماعة بالمعنى الدينيّ أو حتى الاجتماعيّ. فهو كان شيعيّاً في قيد النفوس فقط، لكنّه بدأ حياته السياسيّة يسارياً متطرّفاً في أفكاره (فقط)، وانتمى إلى مجموعة سياسيّة وثقافيّة ما تزال تؤمن بالتغيير الثوريّ”.
وتتابع رزق: “سلوك لقمان وفكره كانا خارج البيئة الشيعيّة التي كانت تتغيّر، والتي ذهبت إلى كيانيّة الطائفة مع حركة أمل. أمّا موضوع الوطنيّة فهو بعكس أفكاره الأمميّة، وهذا تبدّل سياسيّ واضحٌ تَمثّل بالانتقال إلى مجموعة “لبنان أولاً”.
جاهر بضرب المقاومة وبالتصالح مع العدو
وتلخّص رزق ركائز التفكير عند لقمان بالقول إنه “انتمى إلى مجموعات شيعية، وأخرى غير شيعيّة، ذهبت إلى تثبيت كيانيّة لبنانيّة:
- تبتعد عن التحالفات الإقليميّة للمقاومة.
- تذهب إلى العلاقة مع الأميركيّ وتحالفاته العربيّة، وذلك للتعبير عن معارضته للمقاومة (حزب الله) وتحالفاتها.
- ضدّ المظاهر الدينيّة التي كانت قد غزت الضّاحية الجنوبيّة، وضدّ النّموذج الشيعيّ الذي قدّمته إيران، وهو من سكّان الضاحية (الأصليين).
وعندما نقول أهالي الضاحية الأصليين، فهذا يعني أن هناك عائلات من حارة حريك والغبيري وبرج البراجنة تعتبر أن النزوح الجنوبيّ والبقاعيّ إلى الضاحية أدّى إلى تغيير في ديمغرافيتها وعاداتها وأفكارها وانتماءاتها السياسيّة؛ وهو ابن محسن سليم بما كان يحمل من توجّهات سياسيّة”.
وتتوقّف د. رزق عند توجّهه السياسيّ لتؤكّد أنّه “أصبح أعنف وأكثر تطرّفاً، وأدّى به إلى المجاهرة بالعداء والمطالبة بضرب المقاومة وبالتّصالح مع العدو الإسرائيلي”.
رفضه الفكر الديني دفعه إلى التطرّف
وتعتبر د.رزق أن شخصيّة لقمان وتركيبته الأساسيّة هي التي دفعته إلى موقفه المتطرّف لا عمالته، حيث تقول: “إنّه فعل إراديّ، ليس فقط بسبب علاقاته بمؤسّسات بحثيّة أميركيّة متطرّفة، أو بمؤتمرات يشارك فيها صهاينة أو منظمات مجتمع مدنيّ، يتشارك لقمان معها فكرة التغيير السياسيّ عبر معاداة المقاومة وتحالفاتها والانتماء إلى مجموعات كانت يساريّة، وتطالب اليوم بالدولة والنظام، تحت شعار الوطنية، وإنّما لأنّه في تركيبته السياسيّة الأساسيّة والشخصيّة معادٍ للفكر الدينيّ أولاً، ولحامليه الشيعة الأقوياء؛ وكلّما كانوا أقوى تطرّف أكثر”.
هل كان فاعلاً في مجتمعه؟
تعود د. رزق إلى التأكيد أن لقمان “لم ينتمِ إلى الاجتماع الشيعيّ يوماً، إن تحدّثنا عن هذا الاجتماع. وإن كنّا نتكلّم على الدائرة الصّغيرة التي ينتمي إليها، فهو كان يسعى إلى أن يُشكّل مثالاً لها. ربّما هناك معارضون شيعة كثر للثنائيّ الشيعيّ، أو لحزب الله، يكتبون ويصرّحون ويشكّلون وجهة نظر، إمّا من داخل الطائفة وإمّا من خارجها، لكنّهم لم يذهبوا إلى التطرّف كما ذهب سليم؛ وهذا لا يعود – وفقاً لما ذهبت بعض التعليقات – إلى “عمالته”، بل إلى شخصيّته وأفكاره التي عكست مغالاةً وتطرّفاً في وجه عدم إمكانيّة التّغيير والعجز عن تحقيق أيّ تقدّم في هذا المضمار سوى إظهار الكراهية والاستفزاز”.
وتختم بالقول: “كان يفكّر في التغيير، ولم يكن لهذا التغيير منهجٌ أو نهج يستقطب”.
لقمان كان نخبوياً لكنّه ابن بيئته
يتّفق كلام الشيخ محمد علي الحاج (إمام مسجد سدّ البوشريّة) لـ”أحوال” مع تقييم د. رزق من جهة ابتعاد لقمان عن استقطاب الجمهور، معتبراً أن سليم كان يتحاشى الجماهير والمنتفعين ويميل إلى النشاط النخبويّ، لكنّه كان ابن بيئته ويسعى لتنميتها، “وقد سمعته بأذني – مراراً – كيف كان يعارض ضرب البنية الشيعيّة في الضاحية وسواها، لكنّه ذو طريقة خاصّة في العمل والتعبير، والكثير ممّا يقال عنه خطأ”.
ويقول في معرض تأكيد الفكرة: “لقمان شخص واقعيّ للغاية، وطموحه أن يكون شخصاً مبدعاً وخلّاقاً، ويعتبر أن الشخص يُمكنه أن يكون أهمّ من أيّ موقع سياسيّ. لذلك لم يكن يطرح نفسه كبديل لأحد، ولم يكن يتفاعل مع أيّ طرح للترشّح في الانتخابات النيابية مثلاً. هو شخص غير شعبيّ، ولا يجامل، كما لا يعنيه أن يتولّى أيّ موقع إطلاقاً، طبعاً بخلاف توجّه الكثيرين ممن يُطلق عليهم صفة المعارضين الشيعة”.
لكنّ الشيخ الحاج يعتبر – في المقابل – أن “لقمان لا يُجيد الحياة في مناخ دكتاتوريّ استبداديّ، ولا يتقبّل فكرة العيش بعيداً عن حريّة الرأي، والدّيمقراطية، والعدالة، وحقوق الإنسان، والتنوّع… معتبراً أن “همّه خدمة المجتمع، والمساهمة في رقيّه، ورفعة شأنه”.
اتّهامات لقمان بالتحريض غير صحيحة
يرفض الشيخ الحاج الكلام الذي يُخرج لقمان من بيئته، والذي يتّهمه باستعداء الخارج عليها، بل يشدّد على سماعه رفض لقمان “شخصيّاً أي إساءة أو هجوم يستهدف هذه البيئة، خصوصاً ما يتمّ تداوله بشأن التحريض على عمل عسكريّ ضد الضاحية”.
ويتحدّث الشيخ عن الديني والإلحادي في فكر لقمان وسلوكه، فيقول: “هو ابن بيئة شيعيّة، له فهمه الخاصّ للدّين، بالرغم من مجاهرته بكونه غير دينيّ، ولكنّه في الواقع هو يحترم ما كان عليه أبناء الشيعة، ويرفض الانحراف وانتشار الخرافات، والمزج بين الدين والسياسة”.
الشيخ الحاج: حسبنا محكمة الله
يرفض الشيخ الحاج توجيه اتّهام لأي طرف، ويقول: “انطلاقاً من ضوابطنا الفقهية؛ لا يمكن تحميل المسؤولية لأيّ طرف، إلا بعد التحقّق، وإن كان يمكننا توجيه اتهام سياسي، لكنه من دون مفاعيل قانونية، طالما لا يوجد أدلة حسّيّة على المُدّعَى، كما أننا لا نراهن على قضاء خاضع للطبقة الحاكمة؛ كذلك لا حاجة لمعرفة القاتل في ظلّ كلّ هذه التعقيدات في الساحة اللبنانية؛ لكن حسبنا محكمة الله – عز وجل- والشعب والتاريخ”.
لا اتّهامات قبل إعلان التحقيق
أثار “أحوال” اغتيال لقمان سليم مع الدكتور عمر نشّابة والاتّهامات الغفيرة التي تبادلها “المعسكران” في لبنان، فشدّد – من وجهة نظر حقوقيّة – على أنّ “من الخطأ تصنيف موضوع الاغتيال الآن تحت أيّ عنوان قبل ظهور نتائج التحقيقات الأوّليّة للقضيّة؛ والمقصود بها النتائج الصّادرة عن السّلطات الرّسميّة لا التي يَجري تسريبُها إعلاميّاً؛ هذا إذا أردنا أن نضع تصنيفاً رسميّاً دقيقاً، بخلاف التصنيفات الشّعبويّة والإعلاميّة التي تلقى رواجاً كبيراً – بكلّ أسف – من هذا الطّرف أو ذاك، سواء بخصوص هذه الجريمة أم في غيرها من الجرائم”.
ويُذكّر د.نشّابة بقاعدة تقول إنّه “عندما يكون القضاء غير مستقلّ، وتحصل جريمة، تذهب النّاس إلى الاتّهام – على الطّالع والنّازل – بما يُناسب توجّهات وقناعات كلّ فريق”.
ويُضيف: “واليوم – في قضيّة لقمان سليم – هناك استباق للتّحقيق عند كثيرٍ من النّاس؛ ثمّة مَن يعتبر أنّ جهةً حزبيّة معيّنة هي المسؤولة عن اغتياله… والفريق الآخر يستبق التحقيقَ بالقول – ولا يجوز ذلك – إنّه لا يُمكن أن تكون هذه الجهة مسؤولة، وأنّ الجاني هو “إسرائيل” التي قتلته”.
الاحتمالات لا تلغي قرينة البراءة
ويشدّد نشّابة على أنّ “كل الاحتمالات ممكنة، مع التأكيد أنّ التّوازن بين الاحتمالات وقرينة البراءة قائم إلى أن تتمّ إدانةُ طرف بعينه قضائيّاً”، معتبراً أن “نظام العدالة هو القادر على منع توظيف الجرائم في اللعبة السياسية”.
ويدعو إلى إصلاح “النظام القضائي اللبناني، مُذكّراً اللبنانيين بتجربة المحكمة الدّولية فيقول: “لقد ذهبوا مرّة إلى المحكمة الدّولية لكنّها لم تُحقق ما يرجونه!”.
ما بين اتهامات سياسيّة وتصويب الجيوش الإلكترونيّة، تستمرّ العدالة في سباتها؛ وفي كواليس مسرحنا الوطنيّ لاعبون، لا يُبصرهم المواطنون، يتبادلون اللكمات، ويُصفّون حسابات أرقامها المواطنون.
طارق قبلان