منوعات

حصاد مصرف لبنان 2020: الحاكم في قفص التدقيق الجنائي

لم يكن عام 2019 – 2020 عادياً على مصرف لبنان وحاكمه رياض سلامة. فآخر شهور 2019 حملت معها أحداثاً أمنية متتالية، بدأت باندلاع التظاهرات الشعبية في مختلف المناطق، أو بما عُرِف بـ”انتفاضة” 17 تشرين أول، شكّلت بداية لأحداث مفصلية للعام 2020 مصحوبة بمشروع خارجي لازالت فصوله تتردد بأشكال مختلفة حتى الآن.

مصرف لبنان كان إحدى الواجهات والساحات الأساسية لبركان 17 تشرين، وما زال حاكمه رياض سلامة حتى الآن أسير شرنقة التدهور الاقتصادي والمالي والخلافات السياسية، وفي قفص الإتهام حيال الجرائم والإرتكابات المالية منذ سنوات.

فقانون النقد والتسليف العام 1963 يمنح مصرف لبنان إستقلالية شبه تامة عن الدولة، ولحاكمه صلاحيات واسعة حوّلته إلى “سلطان” “المصرف” و”جمهورية النقد والمصارف”. وبمعزل عن القراءات المختلفة لسياسات “المركزي”، لكنها أدت في النهاية إلى مستويات متقدمة من الإنهيار.

هل “الحاكم” ضحية الطبقة السياسية الحاكمة أم شريكاً أساسياً معها؟

دخل مصرف لبنان في عين العاصفة الهوجاء التي ضربت لبنان مع اندلاع “ثورة” 17 تشرين 2019 والتي بدأت نتائجها تنعكس على أرض الواقع تدريجياً، مع اختفاء العملة الخضراء في محال الصيرفة، وخلق السوق الموازية أو السوداء التي لازالت حتى الآن المتحكمة بعمليات بيع وشراء وأسعار الدولار. فهرع المواطنون إلى المصارف بشكلٍ هستيري لسحب ودائعهم بعدما أقفلت المصارف أبوابها بحجة التهديد الأمني. وتطوّر الأمر إلى “غزوات” على المصارف ومصرف لبنان ومطاردات لسلامة توِجت بملاحقته “البوليسية” الأخيرة في شوارع الرابية.

أين أخطأ سلامة والمصارف؟

مرجع سابق في مصرف لبنان أشار لـ”أحوال” إلى أن “المركزي” كان على علمٍ بأزمة الودائع قبل حدوثها بأشهر عدة، عبر ظهور مؤشرات الإنهيارات السياسية والمالية والاقتصادية المتأتية من الفراغ الرئاسي والحكومي والخلافات السياسية وأزمة النزوح السوري وغيرها.

لكن الخطأ الكبير الذي حصل خلال أحداث تشرين بحسب المرجع، هو إقفال المصارف لمدة أسبوعين بذريعة التهديد الأمني و”أنانية” بعض أصحابها ما أحدث حالة من الهلع عند المودعين والمواطنين، خلقت “هجمة” كبيرة على المصارف التي لا تملك عادة سيولة نقدية لتلبية مودعيها في هكذا حالات. أدى هذا إلى فقدان الثقة بالقطاع المصرفي، الذي لم يعد باستطاعته جذب رؤوس الأموال من الخارج.

وفي سياق ذلك كشفت مصادر مصرفية لـ”أحوال” أن 60 في المئة من الودائع المصرفية تعود لمغتربي إفريقيا الذين توقفوا عن تحويل أموالهم إلى لبنان وإيداعها في المصارف بعد تبخر ودائعهم. كما كشفت أن حجم الإيداعات المصرفية في “المركزي” بلغت 80 مليار دولار منذ ثلاث سنوات، وبدأت تتآكل منذ العام 2016، ولم يُعرف حقيقة ما تمتلكه المصارف حتى الآن نتيجة اختلاط الحسابات بينها وبين “المركزي” والمصارف المراسلة وسندات الخزينة الداخلية والخارجية.

والخطأ الثاني بحسب المرجع، هو قيام أصحاب كبار المصارف والودائع والسياسيين إلى تحويل أموالهم إلى الخارج ما يشكل خرقاً للدستور الذي يمنع على المصارف التحويل الإستنسابي والإنتقائي للأموال إلى الخارج. والخطأ الثالث. وأضاف المرجع: إنّ المصارف لم تكن شفافة وصريحة مع المودعين لجهة “أمن” ودائعهم والتفريط بها واحتجازها وتقسيط السحوبات، وصولاً إلى تطبيق “الهيركات” غير المباشرة التي وصلت بحسب مصادر مصرفية إلى 70 في المئة على الوديعة.

وبيّن المرجع أن خطأ “الحاكم” في عدم قيامه بواجبه باستدعاء أصحاب المصارف التي حوّلت الأموال إلى الخارج وإجبارهم على إعادتها أو تنحيهم عن إدارة المصرف.

ولأنّ التعميم لا يتمتع بقوة القانون، تجاهلت المصارف تعاميم “المركزي” سيما التعميم الذي أجبر المصارف على إعادة 30 في المئة من الأموال المحوّلة إلى الخارج من تموز 2017، على أن يتم ذلك في شباط المقبل، لكن مصادر مصرفية شككت بالتزام المصارف بذلك.

وبحسب المرجع، فقد كان على سلامة أن يقدم إستقالته منذ عامين حينما بدأ الإنهيار، إذ لا يمكن أن يتعرّض البنك المركزي للإفلاس في عهده ويبقى في منصبه. ولأجل ذلك جرى تحميله مسؤولية الأخطاء التي ارتكبتها الطبقة السياسية وحوّلته إلى “كبش فداء”. أما الآن، فالإستقالة مستحيلة لأنها تهرب من المسؤولية.

في المقابل، نقلت مصادر مقرّبة من الحاكم لـ”أحوال” إلى أن “المركزي” تعرّض لحملة ضغوط  كبيرة، وهو لطالما حذّر الحكومات المتعاقبة والطبقة السياسية كافة مما آلت إليه الأوضاع اليوم؛ وبالتالي لا يمكن تحميله مسؤولية تخلّف الحكومات والمجالس النيابية عن دورها في رسم السياسات المالية والاقتصادية وإعداد الموازنات. إذ كان المصرف يغطي العجز والديون ودعم المواد الأساسية وبعلم السياسيين، والدليل سلسلة الرتب والرواتب التي حذّر الحاكم السياسيين من تداعياتها السلبية وطرح تقسيطها على خمس سنوات من دون أن يلقى تجاوباً”.

من جهته، أشار النائب الأول السابق لحاكم مصرف لبنان د. محمد بعاصيري لـ”أحوال” إلى أنّ “مصير الودائع يتوقف على شكل الحكومة الجديدة ومدى مصداقيتها، وطبيعة برنامج عملها ومدى قدرتها على إنجاز الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي، واستعادتها لعلاقاتها العربية والخليجية؛ أي على الحكومة أن تمتلك خطة اقتصادية مالية نقدية شاملة بالتعاون مع مصرف لبنان لمعالجة الأزمات، وبالتالي يمكن إعادة القسم الأكبر من ودائع اللبنانيين وتدريجياً”.

اليوروبوندز”

أما أهم استحقاق واجه مصرف لبنان وحكومة دياب في بداية العام 2020، هو ديون “اليوروبوند” في 9 آذار الماضي. حيث رفضت الحكومة وللمرة الأولى دفع هذه الديون؛ وطرحت إعادة هيكلتها بالتفاوض مع حاملي السندات. قرار خالف توجه الحاكمية التي أيّدت الإستمرار بالدفع، ما دفع بوكالات التصنيف العالمية إلى خفض تصنيف لبنان الإئتماني.

وبحسب مصادر مالية لـ”أحوال”،  فلو سدّد لبنان “اليوروبوند” البالغة مليار و200 مليون دولار مع جدولة الدين الخارجي للمصارف اللبنانية، لما أُعِلن لبنان دولة مفلسة في وكالات التصنيف. وأوضحت أن حكومة دياب لم تدفع الديون لكي لا تمس بالودائع؛ لكن ألم تموّل سياسة دعم السلع الأساسية من الودائع؟ ما أدى إلى هدر 6 مليار دولار خلال سنة نتيجة سوء إدارة الدعم وجشع التجار وتهريب السلع واستنزاف الإحتياط النقدي.

ورغم تطمينات سلامة المتكررة وآخرها لجهة الإحتياطات النقدية في “المركزي”، لكن ما حدث لاحقاً دحض التطمينات. فقد ارتفع سعر الصرف تدريجياً إلى ما فوق الـ8000؛ فيما طبقت “الهيركات” عملياً من خلال إجبار المودعين على سحب ودائعهم على سعر صرف 3999  ومن خلال ما يعرف “بالشيك بنكير” بالدولار الذي يتم إخراجه من المصارف بـ30% أي ثلث قيمته.

الملاحقة القضائية لسلامة

ومذ ذلك الحين بدأت الدعاوى القضائية تسقط على رأس سلامة، تتهمه بجرائم النيل من مكانة الدولة المالية والإخلال بالواجبات الوظيفية والإهمال؛ ما استدعى جملة استدعاءات قضائية أتبِعت بقرار قضائي في 20 تموز 2020، بالحجز الإحتياطي على الأسهم العائدة له؛ فضلاً عن إلقاء القبض على مدير العمليات النقدية في “المركزي” مازن حمدان وسجنه لأسابيع بعد اعترافه بالتواصل مع صرافي السوق السوداء وبأنه يعمل تحت إشراف الحاكم؛ إلى أن مثُل سلامة نفسه منذ أيام أمام القاضية غادة عون للتحقيق معه.

قانون “قيصر”

وحفل شهر حزيران بالأحداث، مع دخول “قانون قيصر” الأميركي الذي أصدره ترامب ضد سوريا حيز التنفيذ، لكنه لفح لبنان بصعقات من الهواء المثلج. ففي 30 حزيران أرسل لبنان مذكرة إلى وزارة الخارجية الأميركية لطلب إستثناء من هذا القانون.

ورغم غض الطرف الأميركي عن بقاء التعاون التجاري بين لبنان وسوريا، إلا أن الأميركيين فرضوا سلسلة عقوبات على شخصيات سياسية لبنانية بارزة.

ومن المتوقع بحسب المعلومات، صدور قرار عقوبات جديد ضد سياسيين لبنانيين في السادس من الشهر الجاري؛ إلا أن مصادر مطلعة على العلاقات اللبنانية – الأميركية لم تؤكد ولم تنفِ لـ”موقعنا” هذه المعلومات. لكنها لفتت إلى أن تسريب المعلومات ربما يكون من الداخل لأهداف شخصية أو من واشنطن لمعرفة ردة الفعل. لكنها أكدت بأن العقوبات لن تطال الحريري.

رفع الدعم

وشهد عام 2020 أيضاً تهديداً للأمن الغذائي، تمثل بإعلان الحاكم أنه يستطيع البقاء بسياسة الدعم حتى نهاية العام الجاري، ما أحدث إرباكاً حكومياً ونيابياً وصدمة شعبية وتحركات في الشارع.  وهذا ما وضع البلاد أمام خيارات أحلاهما مرُ، رفع الدعم أو خفض الإحتياط النقدي أو المس بالذهب. إلا أن معلومات “أحوال” كشفت عن خطة تعدها الحكومة لترشيد الدعم من دون المس بذوي الدخل المحدود ولا بالإحتياط على أن ترسلها إلى البرلمان الإسبوع المقبل لمناقشتها وإقرارها.

وفي هذا السياق، لفت بعاصيري إلى أنّ الحل يكمن في ترشيد الدعم واعتماد البطاقة التمويلية لذوي الدخل المحدود، ووقف الدعم عن الطبقة الميسورة وغير المحتاجة، وهذا يمنع تهريب المحروقات والسلع الغذائية إلى الخارج ويوقف الإحتكارات ويحافظ على النقد الوطني.

ورفض بعاصيري خفض الإحتياط إلى 12 أو 10 في المئة واستخدام جزء منه للدعم، فيما المنطق إعادة هذه النسبة إلى المصارف. أما احتياط الذهب، فرفض النائب السابق للحاكم رهنه للإستدانة أو بيعه. وأضاف: يمكن استخدامه بإيجار قسم منه شرط وجود خطة شاملة تقدمها الحكومة الجديدة بالتعاون مع صندوق النقد والجهات المانحة.

التدقيق الجنائي”

في ٢٨ تموز الماضي، وافق مجلس الوزراء على التعاقد مع شركات أجنبية للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. ومذ ذلك الحين إندلع خلاف سياسي كبير ومحاولات لعرقلة التدقيق الذي قِيل إنه أحد أسباب تفجير مرفأ بيروت (بعد 6 أيام على قرار التدقيق).

إلا أنّه وبعد ضغوط كبيرة ورسالة رئيس الجمهورية إلى البرلمان، أقرّ المجلس النيابي الإثنين قانون تعليق العمل بقانون سرية المصارف لمدة سنة في كل ما يتعلق بعمليات التدقيق المالي والجنائي على حسابات المصرف المركزي والوزارات والإدارات والمؤسسات العامة والهيئات والمجالس والصناديق.

محمد حمية

 

محمد حمية

صحافي وكاتب سياسي لبناني. يحمل شهادة الماجستير في العلاقات الدولية والدبلوماسية من الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى