منوعات

ملحم بركات… حارس الأغنية اللبنانية في الزمن الصعب

يارا جمعة - الاخبار

الموسيقار اللبناني ملحم بركات
الموسيقار اللبناني ملحم بركات

في ذاكرة الموسيقى اللبنانية، ثمّة أسماء لا تُذكر إلا مقرونة بالصوت المليء بالحياة. من بين هؤلاء، يتفرّد ملحم بركات بلونه الخاص، ذاك الفنان الذي جمع بين العنفوان والعاطفة، فاستحقّ لقب «الفنان المثير والثائر». لم يكن مجرد مُغنٍّ أو ملحّن، بل كان موسيقاراً حمل الأغنية اللبنانية على كتفيه وأعطاها طابعاً لا يشبه سواه.

الطفولة التي صاغت موسيقاراً استثنائياً: بدايات ملحم بركات

وُلد ملحم بركات في 5 أيار 1942 في قرية كفرشيما – البلدة التي أنجبت كبار الأصوات اللبنانية مثل فيلمون وهبة، وعصام رجّي. نشأ في بيت بسيط، والده أنطوان بركات كان نجّاراً يعزف على العود، وفي البيت سمع ملحم النغم قبل أن يتقن الكلام.

في السادسة عشرة، ترك المدرسة خلسةً والتحق بالمعهد الوطني للموسيقى. كان يخبّئ كتبه في كيس ورقي أمام الباب حتى لا يكتشف والده أمره، لكن حين انكشف السرّ، رضخ الأب لإصرار ابنه. هناك، تتلمذ على أيدي كبار الأساتذة مثل سليم الحلو، زكي ناصيف، وتوفيق الباشا، وتعلّم أصول الصولفيج والعزف والغناء الشرقي، ليتخرّج عاشقاً للمقامات، متقناً لفنونها. وهكذا بدأت رحلته.

حافظ ملحم بركات بألحانه على مجد الأغنية اللبنانية
حافظ ملحم بركات بألحانه على مجد الأغنية اللبنانية
ملحم بركات في مسرحية الربيع
ملحم بركات في مسرحية الربيع
ملحم بركات... حارس الأغنية اللبنانية في الزمن الصعب
ملحم بركات… حارس الأغنية اللبنانية في الزمن الصعب

من كفرشيما إلى الرحابنة: انطلاقة ملحم بركات الفنية

بدأ بركات يغنّي في قريته الصغيرة، فكانت أولى أغانيه «الله كريم بنرجع ع ضيعتنا»، من كلمات توفيق بركات وألحان فيلمون وهبي. بعدها قدّم أول ألحانه «بلغي كل مواعيدي» (ديو مع جورجيت صايغ)، ضمن برنامج «ساعة وغنية» للأخوين الرحباني، لتكون الشرارة الأولى لمسيرة ستملأ الساحة العربية.

اقرأ أيضاً: زياد الرحباني…رحل العبقري

لم يكتفِ ملحم بالغناء والتلحين، بل ترك بصمته على خشبات المسرح وشاشات السينما. عمل سنواتٍ مع الأخوين رحباني والسيدة فيروز في مسرحيات مثل «الليل والقنديل»، «بيّاع الخواتم»، «سفر برلك» وصولًا إلى «الربيع السابع» مع رونزا. وفي تلك المرحلة، شارك أيضاً في بطولة مسرحيات «الأميرة زمرد» لروميو لحود، و«الجنون فنون» و«ست الكل» مع صباح، و«ومشيت بطريقي» إلى جانب الراقصة الراحلة داني بسترس.

ملحم بركات في السينما

خاض التجربة من خلال فيلمَيْ «حبي لا يموت» (1984) و«المرمورة» (1985)، مجسّداً شخصيات لا تقلّ حرارة عن صوته. وأحيا حفلات في كبرى المهرجانات من قرطاج وجرش إلى المسارح العالمية في فرنسا، أميركا، أستراليا وكندا.

ألحان ملحم بركات… هوية لبنانية لا تشبه سواها

في سبعينيات القرن الماضي، بدأ اسم ملحم بركات يلمع كملحّن بارع. قدّم ألحاناً للمطربة صباح في مسرحية «حلوة كتير»، منها: «ليش لهلق سهرانين»، «المجوز الله يزيدو»، و«صادفني كحيل العين»…

كان يصرّ على أن يحمل اللحن روح التراث، لكن دون أن يحبسه فيه. لذلك أحبّه الناس من مختلف الأجيال؛ أغانيه كانت تجمع العراقة بالحداثة، والنبرة الريفية بالروح المدنية.

اقرأ أيضاً: الشيخ إمام: صوت الفقراء والمقهوري

أبرز الفنانين الذين غنّوا من ألحان ملحم بركات

غنّى من ألحانه نجوم كبار مثل صباح، وديع الصافي، سميرة توفيق، باسكال صقر، ربيع الخولي، غسان صليبا، ميشلين خليفة، كارول صقر، أحمد دوغان، وملحم زين.

كل واحد منهم حمل بصمته الخاصة، لكنهم التقوا جميعاً في روح اللحن البركاتي الذي يمزج بين الفرح والوجع، البساطة والعظمة.

كاد ملحم بركات أن يلحّن لـ«فيروز»

رغم أن انطلاقة ملحم بركات الفنية بدأت عبر مسرح الأخوين الرحباني، إلا أنه لم يقدّم أي عمل للفنانة فيروز طوال حياته. فحين أبدى استعداده للعمل معها، استدعاه عاصي الرحباني وسأله: «هل تستغلّ مرضي؟». ما ترك غصة في قلب بركات، فاختار بعد ذلك ألّا يتعاون مع فيروز مطلقاً حتى وفاته، وهو ما تمّ بالفعل.

إحدى حفلات ملحم بركات مع هدى حداد
إحدى حفلات ملحم بركات مع هدى حداد
لقاء بين ملحم بركات وعادل إمام
لقاء بين ملحم بركات وعادل إمام
ملحم بركات وربيع خولي
ملحم بركات وربيع خولي
ملحم بركات ورفيق سباعي
ملحم بركات ورفيق سباعي
ملحم بركات برفقة وليد توفيق
ملحم بركات برفقة وليد توفيق

كيف أثّر ملحم بركات على الأغنية اللبنانية؟

في زمنٍ كان الفنانون يسعون إلى الانتشار عبر الغناء باللهجات العربية المختلفة، اختار أبو مجد أن يبقى لبنانياً بالكامل. غنّى بلهجته، بلكنته الجبلية، بحروفٍ تنتمي إلى هذه الأرض. كان يؤمن بأن اللهجة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هوية، وأنّ الغناء باللهجة اللبنانية هو دفاع عن الذات، عن الذاكرة، وعن المكان. وبهذا القرار، حمى الأغنية اللبنانية من الذوبان في موجة التوحيد التجاري التي غمرت المنطقة.

يبدو تأثير الموسيقار ملحم بركات في مسار الأغنية اللبنانية من خلال جمع الأصالة والتجديد في أعماله، محافظاً على الجذور الشرقية والإيقاعات اللبنانية، مضيفاً إليها طابعاً درامياً وشغفاً عاطفياً ميّزاه عن سواه.

بصوته القوي وحضوره المسرحي، أعاد بركات للأغنية اللبنانية روحها الطربية التي تمسّ القلب، دون أن تفقد بساطتها وقربها من الناس. كما أن ألحانه لعمالقة الغناء – مثل صباح، وديع الصافي، ماجدة الرومي، ووليد توفيق – أسهمت في انتشار اللون اللبناني بأسلوب حديث وعصري.

يمكن القول إن بركات لم يكن مجرد مطرب أو ملحّن، بل مدرسة موسيقية كاملة جمعت بين الشغف والجرأة والالتزام الفني، فغدت أغانيه مرجعاً للأصالة اللبنانية التي لا تشيخ مع الزمن.

أغاني ملحم بركات التي لا تُنسى

لم يكن ملحم بركات مجرّد صوتٍ جميل يغنّي للحب، بل عاشه بكل ما فيه من شغف وتمرّد ووجع. في كل أغنية عاطفية له، نلمح ملامح رجلٍ يحبّ حتى آخر النغمة، ويثور على الفراق كما يثور على الظلم. وبالمثل، كان صوته الوطني يعكس انتماءه العميق إلى لبنان، حبّه لجذوره وحماسه للبلد الذي شكّل مصدر إلهامه طوال حياته. في هذا السياق، تأخذنا أغانيه العاطفية والوطنية معاً في رحلة عبر وجدان الفنان وقلبه الكبير، لتكشف عن شخصية موسيقار جمع بين الحب والعنفوان والانتماء.

أشهر أغاني ملحم بركات العاطفية التي خلّدها الزمن

• «تعا ننسى» – واحدة من أجمل أغاني الفراق، يغنّي فيها عن محاولة نسيان حبٍّ قديم رغم الوجع.

• «اعتزلت الغرام» – أغنية مليئة بالشجن والعنفوان، كتبها نزار فرنسيس، وتُعد من أبرز ما أدّاه في التسعينيات.

• «على بابي واقف قمرين» – من أكثر أغانيه انتشاراً، فيها رومانسية ودفء يذكّران ببساطة الحب اللبناني.

• «حبك كبر» – تعبير عن حبٍّ ينمو رغم المسافات والظروف، بصوتٍ يحمل القوة والحنان معاً.

• «يا حبي اللي غاب» – أغنية مليئة بالحنين والوجع، تجسّد فلسفة بركات في الحب كعاطفة لا تعرف النصف.

• «بدّي حبّك» – تعبّر عن رغبة ملتهبة في الحب الحقيقي، تبرز فيها العاطفة الصافية التي ميّزت ألحانه.

• «وعدني حبيبي» – من أغانيه الأولى، تجمع بين الطابع الشرقي الأصيل والصدق العاطفي في الأداء.

اقرأ أيضاً: ملحم بركات: لهذه الأسباب يطلبون رأسي!

أشهر أغاني ملحم بركات الوطنية التي غنّاها بفخرٍ وانتماء

لم يكن ملحم بركات صوتاً للحب فقط، بل كان أيضاً صوتاً للوطن. غنّى للبنان كما يغنّي لعشيقته، بحماسة وصدق، فكانت أغانيه الوطنية مرآةً لعنفوانه وشغفه.

من أبرز تلك الأغاني «موعدنا أرضك يا بلدنا» و«بلادي ومين ما بيعرف جمالها»، اللتان عبّرتا عن انتمائه العميق إلى أرضه وجباله. كما أدّى أغنية «رح تبقى الوطن» بمشاركة نجوى كرم، لتصبح نشيداً غير رسمي للوفاء للبنان.

ولم يكتفِ بالأغاني العامة، بل كتب وغنّى أيضاً «من فرح الناس جايي» للرئيس إميل لحود، ليؤكّد أن حبّه للوطن لم يكن موقفاً سياسياً، بل حالة وجدانية يعيشها بكل تفاصيلها.

كان بركات يرى أن الفنان لا يكتمل من دون وطنٍ يحتضن صوته، لذلك بقي لبنان حاضراً في ألحانه كما في قلبه، حاضراً حتى في غربته على المسارح العالمية.

وفي هذا السياق، كرّمته مؤسسات ودول كثيرة، لكنّ تكريمه الأهم ظلّ محبة الناس له. كان يؤمن بأن الفنان الحقيقي يُقاس بصدى صوته في القلوب، لا بعدد الجوائز في الرفوف. ومنحه الراحل جورج إبراهيم الخوري لقب «الموسيقار» الذي لازمه حتى النهاية.

عائلة ملحم بركات وحياته الشخصية

  • عائلة ملحم بركات
    عائلة ملحم بركات

عائلة ملحم بركات وحياته الشخصية

وراء الأضواء، كان ملحم بركات يعيش حياة مليئة بالعاطفة والتمرّد. تزوّج مرتين؛ الأولى من رندا التي أنجبت له مجد ووعد وغنوة، والثانية من الفنانة مي الحريري التي رزق منها ابنه ملحم جونيور. ورغم ما شاب علاقاته العائلية من خلافات، بقي حبّه لأبنائه جزءاً من طيبته الأصيلة التي تحدّث عنها كل من عرفه عن قرب.

وفاة ملحم بركات… الرحيل الذي أبكى لبنان

في 28 تشرين الأول 2016، أُعلن رحيل ملحم بركات عن عمر 72 عاماً، بعد معاناة مع المرض في أحد مستشفيات بيروت.

أصيب أولاً بالتهاب في العمود الفقري ثم في الرئة، ما أثّر على قلبه، لكنه ظلّ يقاوم حتى النهاية. وعندما رحل، بدا وكأنّ جزءاً من الذاكرة اللبنانية أُطفئ معه. رحل بعد أن «عدّ الأيام وذاب الورد شوي شوي»، كما غنّى، تاركاً خلفه صوته ليروي وجدان اللبنانيين والعرب.

نزار فرنسيس وملحم بركات: رفيق الكلمة وصداقة العمر

في الحديث عن أبي مجد، نستحضر دائماً في ذاكرتنا الشاعر نزار فرنسيس، أقرب رفاق درب بركات، الذي كتب له أجمل الأغاني، من «عدّ الأيام» إلى «ما في ورد بيطلب ميّ». كان شاهداً على شغفه في الاستديو، وقلقه الإبداعي الذي لا يهدأ. قبل رحيله، كانا يعملان على ألبوم جديد، لكنّ المرض داهمه قبل أن يكتمل المشروع. في وداعه، نظم نزار فرنسيس قصيدة مؤثّرة خلّدت ذكرى بركات وأوجاع فنه وحبّه للحياة.

اقرأ أيضاً: جايل العصر الذهبي للأغنية اللبنانية وتألّق في الأناشيد الوطنية: إيلي شويري التحق برفاق العمر

إرث ملحم بركات الفني… صدى لا يخفت

رحل أبو مجد، وبقي صوته يحوم في ذاكرتنا كندبةٍ لا تُشفى. لم يكن مجرّد مطربٍ عابرٍ في زمنٍ مزدحمٍ بالأصوات، بل كان زمناً وحده، مدرسةً في الغناء والموقف والجنون الجميل. في حياته، كان منفرداً في الساحة، لا يُشبه أحداً ولا يُشبهه أحد. ما زال ملحم بركات حاضراً في الإذاعات والمهرجانات، في المقاهي والمنازل، في ذاكرة جيلٍ تربّى على صوته وجيلٍ جديدٍ يكتشفه كل يوم. رحل «أبو مجد»، لكنّ اللحن ما زال يتردّد… تماماً كما أراد.

ولكن، ظلّ الفراغ الذي تركه يتّسع، كأنّ الأغنية اللبنانية فقدت ملامحها معه، وكأنّنا، حتى اليوم، ما زلنا نبحث عنه في كلّ لحنٍ جديد، وفي كلّ حنجرةٍ تحاول أن تلامس وهج صوته. أم أن صوته لا يزال هنا، يختبر قدرتنا على الحنين؟

يوسف الصايغ

صحافي لبناني يحمل شهادة الاجازة في الإعلام من كلية الاعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية. عمل في عدد من الصحف والمواقع الالكترونية الاخبارية والقنوات التلفزيونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى