
أبلغت دمشق الدولة اللبنانية، ممثلة بوزارة الخارجية، الأسبوع الماضي، عزمها إجراء تغيير على مستوى الكادر الوظيفي المعتمد لدى سفارتها في بيروت، علماً بأن السفارة تُسيَّر منذ مغادرة السفير السابق علي عبد الكريم علي عن طريق القائم بالأعمال. وعلم “ليبانون ديبايت” من مصدر دبلوماسي رفيع في وزارة الخارجية اللبنانية أن دمشق “تفكر” في تعيين قائم بالأعمال بصفة “وزير مفوض” وليس سفيراً أصيلاً، وهو ما يناقض مبدأ المعاملة بالمثل، حيث كان لبنان قد عين سفيراً في دمشق هو هنري قسطون خلال التشكيلات الأخيرة الصادرة عن مجلس الوزراء.
مبدأ المعاملة بالمثل غائب، ويضاف إليه مبدأ التعامل بحدة. فالسفير اللبناني الذي عُيّن في دمشق بقي منتظراً قبول أوراق اعتماده مدة دامت أكثر من شهرين، ولم يحصل ذلك إلا بعد تدخل من دولة خليجية مهتمة جداً بترشيد العلاقات اللبنانية – السورية.
إذًا تطمح دمشق إلى إجراء تغيير بنيوي وليس دبلوماسي فقط على مستوى سفارتها في بيروت، وهذا ينطلق من برنامج عمل لديها قائم على إحداث تغييرات في كافة البعثات الدبلوماسية حول العالم، والتي ما زال يشغلها دبلوماسيون جرى تعيينهم خلال حكم النظام السابق، علماً بأن دمشق سبق لها أن استدعت عدداً كبيراً من هؤلاء.
لكن هذا التغيير، وإن كان حقاً للدولة السورية، يبقى للدولة المضيفة الحق الكامل في استقياء المعلومات حول الشخص المراد تعيينه، سواء في منصب سفير أو غير ذلك، لا سيما في لبنان الذي يعاني حساسية أمنية معينة. والمدعاة لذلك يرتبط بعدم الثقة في الجهة التي تتسلم زمام الدولة السورية حالياً، أي هيئة تحرير الشام، والتي ثبت أنها تتعامل مع أصول الدولة السورية بطريقة أقل ما يقال فيها إنها تتجاهل أبسط قواعد المهنية والحرفية وأنها قائمة على أداء عشوائي – شعبوي، أو أنها تتعامل معها كما لو أنها ملك خاص.
وهذا الأمر ليس مرتبطاً بالأداء تجاه لبنان فقط، إنما بدول أخرى أيضاً، عربية وأجنبية. فمصر مثلاً واجهت نفس التحدي لكن بطريقة مختلفة، حين قرّرت دمشق تعيين شخص في موقع سفير لدى القاهرة (سفير وليس قائم بالأعمال)، ليتبين لاحقاً لدى الدولة المصرية أن الشخص المقترح هو في الحقيقة شرعي سابق في جبهة النصرة، وفيما بعد في “جبهة الفتح” التي تحولت بعد سنوات إلى “هيئة تحرير الشام” التي حكمت محافظة إدلب بالحديد والنار، وأنه، وفقاً لمعلومات أمنية مصرية، عمل على ملفات عدة تتصل بالأمن القومي المصري، أهمها ضلوعه في عمليات تدريب نشطاء جهاديين من المصريين والليبيين. فيما كشف تقرير موجود لدى الإستخبارات المصرية، أنه تولى في فترة سابقة العمل على توفير ممرات آمنة لتسلّل الجهاديين نحو مصر وبلدان شمال أفريقيا.
هذا الأمر، كما غيره، إستدعى من دول أخرى التنبه حيال البعثات الدبلوماسية السورية والتغييرات المحتملة فيها، كحال الجمهورية اليونانية مثلاً، التي نقل إليها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني خلال زيارته الأخيرة نيته إجراء تغيير في سفارة أثينا. غير أن نظيره اليوناني أشترط أن يُرفق طلب تعيين السفير بمعلومات عنه وعن تاريخه، بالإضافة إلى ما يُعرف بـ”Diplomatic career” وهي صيغة تُعرّف بالسيرة الدبلوماسية للمقترح لتعيين سفير في دولة ما وتتضمن نبذة كاملة على تاريخه الدبلوماسي.
وعليه يفترض أن ينعكس نفس الأمر على لبنان، أو على الأقل أن تطالب بيروت بذلك. فالشخص المقترح لتولي مسؤولية القائم بالأعمال لديها هو ببساطة طبيب وناشط في صفوف المعارضة السورية يدعى محمد تنّاري. وعلى ما يتبين، ليس لديه أي تجربة دبلوماسية أو قنصلية سابقة، باستثناء مشاركاته في مؤتمرات دولية والمحاضرة خلالها عن انتهاكات النظام السوري السابق وتحميله المسؤولية عن ارتكاب مجازر باستخدام الأسلحة الكيميائية.
بالإضافة إلى ذلك، أثارت طريقة التغييرات التي تعمل عليها سوريا في سفارتها ببيروت استفسارات لدى مرجعيات لبنانية رفيعة وأخرى أمنية. فمثلاً، ورد إلى وزارة الخارجية اللبنانية أن دمشق وزعت رابطاً إلكترونياً عبارة عن استمارة تعبئة للراغبين في الالتحاق بالعمل الدبلوماسي أو القنصلي لدى سفارة بيروت، وهو أمر خارج عن المألوف في الأصول الدبلوماسية، ويفتح الباب أمام احتمال دخول أشخاص من غير الدبلوماسيين إلى السفارة. ونظراً لوضعية لبنان الحساسة والهشة، ورغبة السلطات السورية الغير مخفية بالانتقام من جماعات أو كيانات سياسية لبنانية، يصبح الموضوع على درجة عالية من الحذر، ولا بد للدولة أن تتعامل معه بموجب ذلك وكما تمليه منطلقات الأمن القومي اللبناني، خاصة وأن التسهيلات الدبلوماسية الممنوحة للبعثات يمكن استغلالها لأهداف أخرى.