لا يختلف عاقلان على أنّ أحد أسباب إخفاق “ثورة” 17 تشرين هو عدم وجود بديل يملأ فراغ الزعامات التي اتُهمت بالفساد والفشل من قبل روّاد الثورة عينها الذين طالبوا أرباب الدولة بالرحيل وتسليم السلطة. إلّا أنّ التسليم هنا يفتقد أحد أهم عنصرَيْه ما جعل الانتفاضة مبتورة، فهو وإن كان واضحًا الطرف المُطالب بالتسليم إلّا أنّ الغائب الأبرز كان الطرف المسلّم له، وبالتالي الخوف من “فزّيعة” الفراغ التي شكّلت الضربة القاضية لثورةٍ أُجهِضت في مراحل تكوينها.
الأطراف الخارجية، وخاصة أميركا وأذرعتها الخليجية، راهنت سابقًا على الثورة لإعادة خلط الأوراق وتغيير الواقع الراهن وإحكام السيطرة بعد أن فرضت الأحداث الإقليمية غلبة لفريق داخلي. أمّا اليوم فقد أدرك هذا الخارج أنّ اللّعب بنفس “الجنود” على نفس القواعد سيؤول إلى النتائج نفسها، وعليه يعمد هؤلاء إلى تبديل اللّاعبين وتعديل أساس اللّعب. فبعد أن كان الهجوم ينحصر على خصومهم تمدّد ليطال أصدقائهم وصولًا لـ”أزلامهم” الذين لم يشفع لهم انصياعهم لهذا الخارج، فقد حُمِّل هؤلاء أكثر من سواهم وزر الفشل في تقويض حزب الله ومنع ما يسمونه بـ”التمدّد الإيراني” رغم الدعم السياسي والمالي الذي تلقّوه.
هذه الملاحظة كانت ضبابية في المرحلة الأولى من “17 تشرين” إلّا أنّها ما لبثت أن تبلورت لتصبح أكثر علانية بعد انفجار 4 آب، ويعلو معها الرهان على بعض المنظمات غير الحكومية أو ما يسمى بالمجتمع المدني الذي يحظى بثقة عالية لدى الغرب.
وفي هذا الإطار ترى مصادر متابعة أنّ القرار لدى الدول الغربية المهتمّة بالشأن اللّبناني لا سيّما الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا هو خلق نخب شابة من النشطاء ودعمهم ووضعهم في الواجهة ودفعهم للأمام وإعطائهم منابر ومساعدات وهبات مالية بعنوان اجتماعي-إنساني. وعليه تعمل الجهات الخارجية على التمدّد نحو أجهزة الدولة ومؤسساتها وإقامة علاقات مباشرة مع موظفين كبار وقضاة وضباط، “بغية الاستفادة منهم في معركة الإجهاز على الطبقة السياسية التقليدية”، وتأهيل البعض منهم للعب أدوار بارزة في المرحلة المقبلة.
وسياقًا، يقرأ البعض سلوك رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبّود على أنّه يفكّر جدّيًا بطرح نفسه كأحد المرشحين الجدّيين “البدائل” لرئاسة الجمهورية في ظل مناخ التغيير الذي “تعمل له الأطراف الخارجية التي تُدرك أنّها اصطدمت بعدم وجود نخبة بديلة في ظل عدم إفراز الشارع لبديل رغم أنّ الطبقة الحالية مأزومة ما يشكّل ذريعة كافية للضرب بهذا الاطار”.
كما عمِل هذا الفريق على إعادة “تدوير” بعض الأحزاب التقليدية والعائلية خاصة حزبي الكتائب والكتلة الوطنية الّذين أجريا تغييراتٍ جذريةً في خطابهما بما يتناغم ورغبة الفئة الشابة، فتبنيا مطالب تحاكي تطلّعات الشارع وتلتقي مع المجتمع المدني.
تزامنًا، شهدت الساحة السياسية كوكبة من التحركات القضائية من خلال العقوبات والقرارات الاستدعائية التي تصدر على خلفية جريمة المرفأ وإلباس أطراف محدّدة تهمة “الإهمال والتسبّب بقتل الناس” تمهيدًا لوضعهم على العقوبات، الأمر الذي يقرأه المراقبون أنّه في إطار إكمال معركة ضرب الطبقة الحالية وخلق أخرى وتحضيرها للانتخابات المقبلة في الـ 2022.
ومن المتوقع أن يصدر قرارٌ ظنيٌّ ثانٍ استكمالًا لقرار المحقق العدلي في جريمة المرفأ فادي صوان بحيث يستدعي الأخير رؤساء حكومات ووزراء سابقين فيوسّع من خلال هذه الخطوة مروحة الظن والادّعاءات. وتكشف المعلومات لـ “أحوال” أنّ الغربيين عمومًا والولايات المتحدة الأميركية خصوصًا سيعملون على فرض عقوبات على من يرد اسمه في لائحة القرارات الاتهامية تمهيدًا لـ”اغتيالهم سياسيًا” وقطع الطريق أمام تمديد زعاماتهم، وترشحهم لمناصب مُحتملة مستقبلًا.
إلى ذلك، يعمل الخليج بقيادة السعودية على تدجين الإعلام اللّبناني بما يخدم المعركة التي تخوضها المملكة إلى جانب الغرب، وان كان بدورها المستتر حتى اللّحظة، إذ سيُعاد إحياء العهود السابقة، حين كانت السعودية المموّل الرئيس للمحطات اللّبنانية، وهذا ما يُفسّر “النقلات غير المفهومة التي تقوم بها بعض القنوات المحلية المعروفة، والتي تؤكد نظرية أنّ هناك مالًا سياسيًا دُفع من أجل المضي قدمًا خدمةً للمعركة التي يعمل عليها الأطراف وخلق طبقة جديدة قابلة للاستثمار السياسي”.