سياسة

د. هشام الأعور – بين وهاب وابن تيمية: الصدام المشتعل بين العقل والمتطرفين

يشكل الفكر التكفيري أحد أخطر التحديات التي واجهت المجتمع السوري خلال سنوات الحرب، لا سيما بعد أن رفعت بعض الجماعات المتطرفة شعارات مثل “حكم الشرع” لتبرير العنف الممنهج ضد مكونات دينية ومذهبية متعددة، وفي مقدمتها الطائفة الدرزية. هذا الفكر الذي يستند إلى تأويلات دينية متشددة، لم يكتفِ بتكفير الخصوم أو المختلفين، بل استخدم الدين وسيلة لإباحة الدماء، وفرض أنماط حياة ومعتقدات بقوة السلاح، وهو ما انعكس على كافة الطوائف السورية، التي عانت من القتل والتهجير باسم الدين، وبدوافع لا علاقة لها بالقيم الإسلامية السمحة.

إن طائفة الموحدين الدروز ، التي تشكّل جزءًا أصيلاً من النسيج السوري، تعرضت لحملة تكفير علنية، استُخدمت فيها فتاوى ونصوص تم اجتزاؤها من سياقها، لتُحوّل إلى أداة ترهيب وقمع. ففي أكثر من منطقة، خُيّر أبناء هذه الطائفة بين الدخول القسري في الإسلام وفق فهم الجماعات المتطرفة، أو القتل، أو دفع الجزية، فيما تعرّضت قرى درزية في ريف إدلب لهجمات مروعة رافقتها عمليات ذبح وخطف، ما شكّل جرحًا عميقًا في ضمير السوريين. ولم تكن هذه الاستهدافات معزولة عن بقية الطوائف، إذ طالت موجات التكفير مختلف المكونات: المسيحيين الذين هُدمت كنائسهم، العلويين والشيعة الذين نُظر إليهم كمشركين، وحتى السنة الذين رفضوا الخضوع للتطرف، ولم يسلموا من القمع والتهديد.

أدى هذا الواقع إلى تفكيك الهوية الوطنية، وتعميق الشرخ بين أبناء البلد الواحد، حيث استُبدلت المواطنة بمنطق الولاء العقائدي، وغابت الدولة لصالح إمارات دينية متنازعة، تحكم بالدم لا بالقانون، وتنشر ثقافة الإقصاء والكراهية. الأخطر أن هذا الفكر لم يكتفِ بإنتاج العنف، بل سعى إلى تبريره وتنميطه على أنه الشكل “الصحيح” للإسلام، مما سمح بتفريغ مناطق بكاملها من تنوعها الثقافي والديني.

أما في لبنان، فقد طفا على السطح نقاش حاد حول الفكر التكفيري وجذوره، بعد تصريحات لرئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب، دعا فيها إلى مراجعة بعض الأفكار الدينية التي أسست، برأيه، للعنف التكفيري، مشيرًا إلى دور بعض المرجعيات التاريخية مثل ابن تيمية في تشكيل البيئة الفكرية التي استفادت منها جماعات متطرفة. ورغم أن وهاب لم يخرج عن إطار النقد الفكري المشروع، جاء رد اللجنة الدينية في المجلس المذهبي متسرعًا، رافضًا أي مساس بمن وصفهم بـ”علماء الأمة”، دون الدخول في نقاش علمي أو ديني حول ما طُرح. وقد فُسّر هذا الرد على نطاق واسع على أنه تدخل في الصراع السياسي بين أقطاب الطائفة، لا سيما أن اللجنة يُفترض بها أن تمثل جميع أبناء الطائفة، لا أن تنحاز لطرف دون آخر. والخلط بين الموقف الديني والاصطفاف السياسي لا يضر فقط بمكانة المؤسسة الدينية، بل يعمق الانقسام الداخلي، ويُسكت الأصوات التي تجرؤ على طرح الأسئلة الملحة حول أسباب التطرف، وجذوره الفكرية.

من المهم التأكيد أن دماء أبناء بني معروف، سواء في سوريا أو في لبنان، لا يجوز أن تُستثمر في السجالات السياسية، ولا أن تُستخدم ذريعة للتخوين أو التهويل. معاناة الموحدين الدروز ، شأنها شأن معاناة كل السوريين، يجب أن تُقرأ في سياقها الوطني والإنساني، لا الطائفي. والمطلوب اليوم ليس الدفاع الأعمى عن رموز دينية أو سياسية، بل فتح نقاش صريح ومسؤول حول من شرعن القتل، ومن سكت عنه، ومن استفاد منه، بعيدًا عن المزايدات والانحيازات.

إن التصدي للفكر التكفيري لا يكون بالسلاح وحده، بل بإعادة الاعتبار للفكر النقدي، وبتحرير الدين من قبضة العنف، وببناء دولة المواطنة التي تحمي الجميع، لا طائفة دون أخرى. فالموحدين الدروز ، كسائر أبناء سوريا ولبنان، لا يحتاجون إلى متعاطفين ظرفيين، بل إلى شركاء في مشروع وطني يحمي التعدد ويصون الكرامة، ويمنع إعادة إنتاج الكراهية باسم الدين.

أحوال

موقع أخباري يصدر عن شركة مدنية غير ربحية في بيروت، يقدم من خلال مساحة رقمية حرة وعصرية أخبارًا سريعة، عظيمة الثقة، لافتةً للنظر، ثريةً، وتفسيرًا للاتجاهات الحالية والمستقبلية، التي تؤثر في أحوال الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى