بعد ليلة دامية عاشتها مدينة بيروت بالأمس، استفاق اللّبنانيون اليوم على تفاصيل القصّة التي حاولوا من خلالها استجماع المشهد العام ليتبيّن أنّ رحلة الانفجار الذي وقع في المرفأ وحصد آلاف الضحايا بدأت منذ سبع سنوات.
وفي تفاصيل الرواية فقد وصلت إلى مرفأ بيروت في أيلول 2013 سفينة شحن محمّلة بكميات هائلة من مادة نترات الأمونيوم الشديدة الانفجار، حوالي 2750 طن آتية من جورجيا ومتجهة إلى موزنبيق.
وقد قصدت السفينة المياه الإقليمية اللّبنانية للحصول على رافعة وجرّافة لإصلاح عطلٍ طرأ عليها، إلّا أن الحال تفاقمت وانتهت إلى ركنها في المرفأ والتخلّي عن حمولتها.
بعد حين تمّ الكشف عن اهتراء أرض السفينة ما أدّى إلى تآكلها، فعملت الجهات المعنية إلى تفريغ حمولتها وتخزينها في العنبر رقم 12 في المرفأ. وبقيت مهملة منذ ذلك الحين حتى أنّ أصحاب السفينة أنفسهم تخلّوا عنها ما من شأنه أن يثير الشك والريبة.
وكشف مصدر أمني لـ “أحوال” أنّ المواد المفرّغة لم يتم توضيبها بشكل صحّي ما أدّى الى تسرب سائل النايتوغلسيرين السريع الاشتعال بمجرد التعرض لأي نوع من الأشعة، وهذه المواد هي عبارة عن أسمدة تفوح منها رائحة نتنة ويمكن تصنيع من خلالها القنابل والمتفجرات.
استمرّ الوضع على حاله حتى العام 2015 و2016، حينها وجّهت إدارة الجمارك غير مرّة إلى قاضي الأمور المستعجلة نديم زوين كتابًا لحسم الموضوع وتحديد مصير هذه الكمّية من الأمونيوم، إلا أن أحدًا لم يحرّك ساكنًا.
وقبل أسبوعين من وقوع الفاجعة، وتحديدًا في 20 تموز الماضي، أجرى جهاز أمن الدولة كشفًا على العنبر رقم 12، فتبيّن أنّه يعاني من عطل في الباب، إذ إنّ هناك فجوة تسمح لأيّ يكن أن يأخذ من هذه المواد الخطرة واستخدامها في تصنيع المتفجرات، فطلب الى المعنيين اتخاذ الإجراءات اللّازمة والقيام بأعمال الصيانة المطلوبة بحسب ما جاء في تقرير المدير العام لأمن الدولة اللّواء طوني صليبا الذي رفعه إلى مجلس الدفاع الأعلى ليل أمس.
وكان المصاب.. فأثناء تلحيم الباب تطاير شرار ناري إلى المفرقعات في العنبر ما أدّى إلى حريق طاول الأمونيوم وحصل ما حصل.
على من تقع المسؤلية؟
كيف لجهاز أمن الدولة أن يرفع هذه التوصية الكارثية، فحتى الأطفال يدركون مدى خطورة القيام بأعمال التلحيم أمام مواد شديدة الاشتعال.. أمن الدولة مشارك في الجريمة.
كيف لمدير عام الجمارك بدري ضاهر أن يتهاون في هذا الموضوع وأن يسمح بوجود هذه الكمية من مواد تشبه بمفعولها النووي وأن يكتفيَ بتوجيه التحذيرات؟ إدارة الجمارك مشاركة في الجريمة.
كيف لمديرية المخابرات المسؤولة عن الأمن في المرفأ أن تتغاضى عن الأمر وتخاطر بأرواح الناس؟ مديرية المخابرات مشاركة في الجريمة.
كيف للجسم القضائي الذي ينخره الفساد والمحسوبيات والارتهان السياسي أن يسمح لقاضي الأمور المستعجلة بحجز مواد متفجرة وتركها بهذا الشكل؟ مجلس القضاء الأعلى مشارك في الجريمة.
كيف لحكومة الحريري ووزيرة الداخلية السابقة ريا الحسن ومن تعاقب خلال هذه السنوات في الرئاسة والوزارة أن يتجاهلوا التحذيرات من خطورة وجود هذه الكمية من نيترات الأمونيوم على الأراضي اللّبنانية؟ هؤلاء أيضًا مشاركون في الجريمة.
باختصار انفجار أمس هو نتيجة تقاعس تراكم لسنوات طويلة وتستّر في عباءة نظامٍ يحمي الفاسد والفاشل وفقًا لخطوط حمراء وضعتها الأحزاب والطوائف.. هذا النظام هو المجرم، وأزلام الدولة العميقة تخرّجوا من مدرسته.
نُهاد غنّام