منوعات

ملف الاحتكار: كارتيل الترابة جريمة بحق البيئة والبشر

يُعتبر قطاع الترابة من أهم القطاعات في اقتصاد البلدان؛ وله استخدامات في عدة مجالات، وهو شريك أساسي مساهم  في الاقتصاد المنتج؛ لذا، تحرص دول العالم على تأمين إنتاجية هذا القطاع تلبية لحاجات الناس في السكن، ولتعزيز الاقتصاد؛ إلاّ في لبنان، حيث تحوّل هذا القطاع إلى مصدر احتكار يغدق أصحاب الرساميل بالكاش… على حساب المواطن.

في هذا السياق، تكشف معلومات “أحوال” أنّ قطاع الإسمنت في لبنان محتكر من ثلاث شركات، تحظى بحماية وغطاء من الدولة. وتصل الطاقة الإنتاجية لمصانع هذه الشركات إلى حوالي 10 ملايين طن سنوياً، وهي تقلّص وتزيد إنتاجها بحسب حاجات الأسواق المحلية والخارجية، متلاعبة بالأسعار بما يناسب مصالحها.

الشركات الثلاث تحقق أرباحاً فاحشة

أكدّ الخبير الاقتصادي د. عماد عكوش في حديثٍ لـ “أحوال” أنَّ الشركات الثلاث التي تحتكر كارتيل الإسمنت هي هولسيم، سبلين، والترابة الوطنية. وقد بلغت مبيعات هذه الشركات خلال عام 2019 حوالي 3.203.397 طن، فيما بلغت لغاية آب 2020 حوالي 1.022.199 طن؛ ويتم بيع الطن في الأسواق القريبة من السوق اللبناني ما بين 30 الى 50 دولار.

وبينما يبلغ السعر الرسمي للطن في لبنان 240 الف ليرة لبنانية (بحسب التسعيرة الرسمية)، إلاّ أنّه لا يتم الإلتزام بهذا السعر؛ حيث يتم بيع الطن بحوالي مليون إلى مليون ونصف ليرة في السوق. وقد كان يُباع في السابق قبل بدء الأزمة بحوالي 105 دولار أميريكي، مّما يعني أنَّ الشركات الثلاث كانت تتقاضى ربحاً إضافياً عن السوق الإقليمي بمبلغ 70 دولار للطن، الأمر الذي أدى إلى تحقيق أرباح إضافية كبيرة تُقدر بحوالي 224.210.000 دولار أميركي، وذلك وفقاً لأرقام الإنتاج قبل العام 2020، بالإضافة إلى الأرباح  الناتجة عن احتكار السوق.

المسؤول الأول هو الدولة

اعتبر عكوش أنَّ عدم قدرة الدولة على فرض سعر موحّد في السوق يفرض عليها فتح الأسواق أمام الاستيراد لمنع الاحتكار، ولو برفع الرسوم الجمركية بنسبة معينة لحماية الإنتاج الوطني، وتخصيصه بنسبة معينة تصل إلى عشرة بالمئة من كل التعهدات والمناقصات التي تطلقها الدولة اللبنانية.

شركات الترابة ارتكبت جرائم حرب

في هذا السياق، اعتبر منسق لجنة كفرحزير البيئية جورج عيناتي أنَّ شركات الترابة في لبنان ارتكبت “جرائم حرب”، لم تحصل في أي مكانٍ في العالم. فهي تقوم بإعدام البيئة والإنسان دون حسيب ولا رقيب. وأبرز عيناتي منطقة الكورة كنموذج، موضحاً أنَّ شركتي هولسيم والترابة الوطنية قد أزالتا جبالاً بكاملها من واجهة الكورة البحرية، من أجل الاستيلاء على مليارات الأطنان من التراب الأبيض والأحمر؛ “تلك الجبال التي كانت تحتوي على ينابيع وشلالات وبساتين، وتتضمن ملايين الأشجار من الزيتون واللوز والتين والعنب والنباتات الطبية والعطرية”؛ لافتاً إلى أنّ كل هذا ذهب ضحية الطامعين في الصخور الكلسية.

مخالفات تقتل البيئة والبشر

ينتج عن طحن الصخور الكلسية، غباراً مجهرياً ناعماً؛ وبعد الطحن يتم إحراقها، وهنا الطامة الكبرى بحسب عيناتي. إذ أنّ الشركات في لبنان تستخدم مادة الكوك أي الفحم البترولي القاتل، الذي ينتج عنه انبعاثاتٍ خطيرة مثل أكاسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين والدايوكسيين والفيوران والزئبق والزرنيخ والكادميوم، وكميات مخيفة من أول وثاني أوكسيد الكربون وغيرها. وتتفاعل هذه المواد مع الرطوبة في الهواء مسببة المطر الأسيدي؛ وهذا المطر أدى بحسب عيتاني،  إلى يباس كامل لأشجار اللتين وزراعات اللوز، وقسم كبير من زراعة العنب التراثية في منطقة الكورة. عدا عن أنَّ المقالع أدت إلى اقتلاع أكثر من مليون وربع شجرة زيتون تاريخية، وقضت على معظم ثروة النباتات الطبية والعطرية.

وأضاف عيناتي، أنَّ هذه الشركات تضرب المعايير الصحية بعرض الحائط، لناحية تواجدها بين البيوت السكنية وعلى خزانات المياه الجوفية؛ لافتاً إلى  مخالفة قانونية واضحة بتواجد الكسارات قرب مدارس الأطفال، حيث  حصلت إحدى الشركات على رخصة “مختبر” كي تنصّب كساراتها الواقعة قرب مدرسة للأطفال في مساحة لا تزيد عن 200.

وأشار عيناتي إلى انتشار مرض عين الطاووس (مرض طفيلي يصيب أشجار الزيتون ويقتلها)  في لبنان بشكلٍ هو الأكثف والأخطر في العالم، نتيجة تفلّت هذه الشركات ومصانعها من أي قيود ومعايير، في ظلّ غياب تام للدولة.

على السلطة التحرّك العاجل

يتأسف عيناتي على إهمال الدولة اللبنانية وتحديداً وزارة البيئة لهذه الناحية، ويتهمها بوضع المعايير وفقاً لما يطلبه أصحاب هذه الشركات. “وطبعاً لن يقوم المجرم الذي يجني أرباحاً طائلة بضرب أرباحه”، موضحاً أنّه في لبنان لا يتم ضبط الفيوران ولا الزئبق ولا الدايوكسين، بل إنَّ ما يتوفر من أوكسيدات النيتروجين والكبريت هو أضعاف أضعاف المعايير المطلوبة عالمياً.

إلى ذلك، اعتبر عيناتي أنَّ وجود هذه الشركات هو “غير قانوني ويحمل صفة إجرامية” لافتاً إلى الرشاوى التي يقدمها النافذون لصالح  الأحزاب. ولفت إلى أنّ هذه الشركات تتآمر على عمّالها، حيث بدأت بإنهاء خدماتهم واستبدالهم بعمال مياومين،  كي تتهرّب من دفع مستحقاتهم وفواتيرهم الطبية التي ستكون عالية بسبب عملهم في هذا المجال الخطير؛ مشدداً  على ضرورة تحرّك القضاء لإيقافها عن العمل فوراً، وعدم السماح لها بالعمل قبل أن تلتزم بالمعايير العالمية التي تحمي البيئة والناس.  وأضاف أنَّ هناك العديد من الدعاوى القضائية ضد هذه الشركات من شأنها فضح ممارساتها  ووضع مالكيها خلف القضبان.

 

فيما تؤكد الشركات الثلاث أنّها تلتزم تسعيرة الدولة الرسمية، إلا أنَّ الترابة اليوم تُفقد من السوق “الرسمي”. ويضطر المواطن إلى شرائها من السوق السوداء، حيث تفوق أسعارها المليون ونصف ليرة لبنانية للطن الواحد. وهنا يُطرح السؤال: من أين يؤمّن تجار السوق السوداء الترابة، إذا كان الاستيراد ممنوعاً؟ وأين رقابة الدولة؟ ألا يعني هذا أنَّ هذه الشركات هي محظياتٍ سياسية تمتص دم المواطن في أهم احتياجاته؟

هذا إن تجاهلنا الواقع البيئي الخطير، الذي تساهم بثلويثه هذه الشركات التي تدمّر الطبيعة اللبنانية، ناشرة الأمراض الخطيرة بين المواطنين عبر مقالعها وكساراتها.

محمد شمس الدين

محمد شمس الدين

كاتب وناشر على مواقع التواصل الإجتماعي ومعد برامج وتقارير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى