لم يكن متوقعاً أن يصعّد رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في إطلالته التلفزيونية إلى هذه الدرجة. صحيح أن الرجل رفع سقف كلامه الشعبوي، لكنّه وجّه سهاماً بإتجاهات عدة، أصابت حلفاءه، والذين احتضنوه، قبل أن تصل إلى خصومه السياسيين. فلماذا اعتمد الحريري التصعيد سبيلاً لإعلان نفسه مرشحاً طبيعياً لرئاسة الحكومة؟
ربما اقتضى النزول عن شجرة الموقف بعدم ترؤس الحكومة في هذا العهد الرئاسي، إصدار الحريري مواقف حادة، لزوم تغطية التراجع. وربما أيضاً انطلق الحريري من التصعيد لمخاطبة فريقين: أولاً، الفريق الخارجي وتحديداً السعودي، للقول إنه القادر على صد الآخرين والتحكّم بزمام المبادرة اللّبنانية ببأس، وثانياً، الفريق الداخلي، معتمداً على أسلوب شعبوي لمحاكاة الشارع السنّي الذي كاد أن يوزّع انتماءاته في إتجاهات غير زرقاء. ومن هنا يمكن فهم رسالة إطلاق النار المدروسة في طرابلس عند إطلالة الحريري على الشاشة، للقول إن الجماهير تؤيد موقف “الشيخ سعد”. لماذا طرابلس دون غيرها؟ لأنها مدينة رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي، المنافس الفعلي والجدي للحريري، ولأن هناك تمدّداً شعبياً نسبياً لأنصار شقيق الحريري بهاء في الفيحاء.
لأوّل مرة يظهر رئيس الحكومة السابق حاداً، بشكل لم يعتده مؤيدوه، ولم يستسغ السياسيون طريقة كلامه. ربما هي الجدية التي تفرضها المرحلة قبل الدخول في مرحلة المفاوضات التي أسماها الحريري “اتصالات”. عادة يتم رفع السقف السياسي قبل التفاوض. لكن ذلك لا يبرّر للشيخ سعد تهجماته على جميع القوى السياسية. واذا كان حزب “القوات” ردّ على كلام الحريري، فإن ثنائي حركة “أمل” و”حزب الله” استمهل إصدار أي موقف أو تعليق. لا بل جاء قرار الثنائي المذكور: ننتظر نتائج الاتصالات.
المفترض هنا أن يجري الحريري اتصالات بالكتل والقوى: ماذا سيقول؟ بالطبع فإن طرح نفسه بمكان المبادر إلى تلك الخطوة يعني رغبته القيام بعملية تسوية لإيصال شخصه إلى مرحلة تأليف الحكومة. لم تُظهر تجربة مصطفى أديب أنّ هناك تنازلات جوهرية سيحصل عليها الحريري من القوى السياسية. بالحد الأدنى، لم يبنِ كلامه التلفزيوني أرضية مناسبة للخطوة. لكن ذلك لا يعني أن الثنائي “أمل” و”حزب الله” سيصدّان الشيخ سعد. سيسمعناه ويقرران ماذا يريدان. بالطبع هما أكثر ارتياحا وتحرّراً. سمع “حزب الله” كلاماً فرنسياً مطمئناً في آخر رسالة: لن نكرّر التفرج على إدارة عملية التكليف والتأليف الحكومي كما حصل أيام أديب. يريد الفرنسيون ان تنجح مبادرتهم. صارت باريس تشعر بإحراج شديد كلما مرّ وقت إضافي من دون نتائج حكومية لبنانية.
تلك الجدية الفرنسية التي ستترجمها السفيرة الجديدة التي وصلت إلى بيروت منذ ثلاثة أيام، قد تكون أحد أسباب اندفاعة الحريري نحو ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة. آن أوان جدية الترشّح. هناك من يهمس دوماً في أحاديثه أن “الحريري لا يريد إلاّ سعد الحريري رئيساً للحكومة، هو دفع أديب نحو إجهاض مهمته، وأحبط مبادرة ميقاتي التسووية، وقبلهما أطاح بأسماء عدة تمّ طرحها(…)”.
فما هي الأسباب الأخرى التي جعلت الحريري يُقدم نحو طرح نفسه؟
تتعدّدت الروايات، لكن القراءات تتلاقى عند سيناريوهات محدّدة: أولاً، لمس الحريري أنّ هناك نيّة لإعادة تكليف أديب، خصوصًا بعد اتصال أجراه معه جبران باسيل طالباً منه العودة إلى لبنان لإعادة تكليفه وفق قواعد أخرى، قد تكون مبادرة ميقاتي هي المضمون، لكن أديب ردّ: أقبل شرط أن يتبنى الحريري الخطوة. هنا يمكن التأكيد أنّ بمجرد إعادة العرض على أديب يعني البحث عن رئيس حكومة، فأقدم الحريري لقطع الطريق على الآخرين، وقام بخطوات تودّدية نسبياً تجاه باسيل.
ثانياً، شعر الحريري أنّ التأييد الأميركي لاتفاق الإطار الذي أعلنه رئيس مجلس النواب نبيه بري بشأن ترسيم الحدود، يمكن أن يفتح الباب أمام تعاط أميركي مرن مع لبنان. وبدل أن يشيد الحريري بجهود بري حاول أن يعطي الإنجاز اللّبناني طابع التجاوب مع الفرض الأميركي بقوّة العقوبات. هنا يحمل كلام الحريري وجهين معاً: إنتقاص من دور رئيس المجلس، وتعظيم لخطوات واشنطن المتمثلة بالعقوبات. بالمحصلة، قد تكون حسابات الشيخ سعد تقوم على أساس أنّ الأمر قد يقود الولايات المتحدة لتأمين غطاء دولي لوصول الحريري إلى السرايا الحكومي مجدّداً تحت عنوان: مواكبة حكومية سياسية للترسيم الحدودي.
ثالثاً، شكّلت مبادرة ميقاتي دفعاً جدّياً لرئيس “العزم” نحو رئاسة الحكومة. هي مسألة تقلق الحريري بدليل عدم تجاوب رؤساء الحكومات السابقين مع مبادرة زميلهم في النادي.
أمام كل تلك المؤشرات، ما هو الآتي؟
كل الخيارات مفتوحة، بإنتظار ما سيقرره رئيس الجمهورية ميشال عون بشأن الاستشارات النيابية، التي سيتحدد مسارها ونتائجها بناء على الاتصالات التي سيجريها الحريري. لكن هناك من رصد غضباً برتقالياً على كلام الحريري: هل يُسجل الشيخ سعد أوّل إنتصار بترؤسه حكومة لا تضم جبران باسيل؟ هو سبق وتمسك بتلك المعادلة، لكن باسيل أطاح بالطرح سابقاً.
وفي حال جاءت مساعي الحريري تسووية لا تشبه كلامه الشعبوي التلفزيوني، فهل يسميه الثنائي “أمل” و”حزب الله”؟ فلنفترض أنّ الثنائي المذكور تبنى ترشيح الحريري كعادته، فماذا سيكون الموقف في حال لم يسمه كل من “القوات” انسجاماً مع خيار سمير جعجع الذي كانت “القوات” أعلنت عنه في بياناتها سابقاً، و التيار “الوطني الحر” الذي لا يبدو أنه استساغ تصريحات الحريري الأخيرة؟. عندها نعود إلى المربع الأول: لا تسمية مسيحية وازنة وميثاقية للحريري في عملية التكليف تطيح بجهود الشيخ سعد. هو كان رفض قبول تكليف حكومي سابقاً من دون تسمية أحد الفريقين المسيحيين الأساسيين له.
عندها، لا نتائج لتسميات الآخرين في حسابات الحريري. ماذا بعد؟ كل الاتجاهات واردة بحسب طبيعة ومسار ونتائج اتصالات الحريري المرتقبة، ومواكبة الفرنسيين لها.
عباس ضاهر