لماذا افترق الشرق والغرب فكرياً؟
مما لا شك فيه أن دراسة الظواهر الاجتماعية وحركيات التاريخ العامة لا يمكن أن تُقرأ من خلال الأدبيات الإختزالية/التقويضية التي لا تفضي إلا إلى ما يمكن تسميته ب”الموضوعية المتلقية” أي السقوط في دوامة نقل الأفكار دون نقل الفكر، وبالتالي فقدان القدرة على تكوين منظور نقدي لها. ولعل من أبرز الظواهر الاجتماعية، التي لطالما جرت مقاربتها على هذا النحو، هي تلك العملية التاريخية التي انطلقت في الغرب، والتي تستحق التأمل في إفرازاتها الفكرية والمادية مطولاً، سواء لكونها واحدة من أهم المحطات التاريخية التي شكلت نقلة نوعية في أنماط التفكير وأساليبه والتي تسيدت لقرون خلت، أم لناحية ما أنتجته من أشكال سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ومؤسساتية جديدة، إنها باختصار: “الحداثة الغربية”.
وتكمن أهمية هذه التجربة الحضارية الفريدة التي تميّز بها الغرب في أنها وضعت حداً فاصلاً بين مرحلتين تاريخيتين شهدهما المسار الإنساني العام: مرحلة المجتمعات التقليدية ما قبل صناعية، ومرحلة التنوير والتصنيع والتمدن والحداثة.
وعلى الرغم من كون الجذور الفكرية والمعرفية للحداثة الغربية ليست أصيلة بذاتها وإنما هي محصلة لسلسلة من التفاعلات الحضارية التي تأثرت بها، وهذا أمر بديهي على كل حال، غير أن ما يميز الحداثة الغربية عن غيرها من التجارب الأخرى أنها أخرجت منظومات فلسفية/فكرية داخل أنساق حضارية سابقة عليها -أفكار الصفصطائيين. على سبيل المثال لا الحصر- من حيّز الكمون إلى حالة التحقق الفعلي على أرض الواقع، عبّر عنها أحد أهم وأخطر المصطلحات التفكيكية المستخدمة على الإطلاق: “نزع القداسة”، ليتجسد في مجموعة مفاهيم ومصطلحات تعكس بمضمونها الخطوط العامة لسمات المجتمعات الغربية الحديثة، فالدولة المركزية القومية العلمانية والشعب العضوي ونهاية التاريخ وتشييد الفردوس الأرضي المؤسس على حلم اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية وثلاثية السوق/المصنع/مؤسسات اللّذة والإنسان ذو البعد الواحد والعقل الأداتي والتسلع والتشيؤ كلها مفاهيم تشير إلى الخلفيات الكامنة وراء الأساليب المتبعة في التعاطي مع الحالة الإنسانية على مستوى هذا النسق المعرفي. بكلام أدق، إن تتبع الجذور العميقة لفكر حركة الإستنارة، جوهر المشروع التحديثي الغربي، يُظهر بوضوح تصاعداً مطرداً في تبني هذه المنظومة المعرفية رؤى مادية في تفسير الظواهر الاجتماعية والتي تذهب في كثير من الأحيان إلى حد رؤية الإنسان على أنه مجرد كائن أحادي الجوهر يسري عليه ما يسري على الحيوان والجماد. هذه النظرة المادية الصرفة تنبع في الأساس من رؤية فلسفية مفادها أن الكون يحوي في داخله جميع العناصر التي تكفي لتفسير الظواهر بشموليتها وعلى اختلاف انواعها، أي أنها رؤية تجسد نظاماً للعالم محض كامن، وأيضاً مستقلاً يعمل بنفسه وقابلاً للفهم من داخله، يتضمن ثلاثة مستويات، هي مستوى النظام الطبيعي غير السحري، المتحرر من المعجزة ومن العناية الإلهية، ومستوى النظام الاجتماعي المتركز على العقل والنشاط الإنتاجي والإنضباط، ومستوى القضاء والقانون اللذين يحددان نظام العلاقات البشرية وقواعد السلوك من أجل أكبر قدر ممكن من المنفعة المتبادلة.
وتكمن الإشكالية في ادعاء الحداثة بأن ما أنتجته من رؤى معرفية هي “ماركة مسجلة”، كما ويؤخذ عليها محاولة إخفاء “ثمن التقدم” بالقول مثلاً إن الإمبريالية إستثناء، النازية إستثناء، الإبادة إستثناء، مع أن هذا الكلام لا يعني بالضرورة إقتران الحداثة بمقولة الإمبريالية والنازية والإبادة، ولكن المعضلة تبرز من خلال رفض الحداثة الغربية الإقرار بأي صلة فكرية مباشرة بتلك الظواهر الكامنة فيها أصلاً. أكثر من ذلك، يذهب البعض إلى حد القول أن الحداثة هي حالة التجسد الفعلي لارتقاء الفكر المقترن بالتقدم المذهل الذي تحقق في بلدان العالم الغربي، وقد يبدو هذا صحيحاً في الظاهر، لكن المشكلة تكمن في غياب أي دليل يبرهن بالضرورة العقلية أن تطور الدوافع العملية مرهونة بارتقاء الفكر الفلسفي. وبالمناسبة، الفكر الفلسفي أثبت تاريخياً أنه لا يتقدم على سبيل التطور أحادي الخط، غير أن الإشكالية الأساسية التي ينبغي التوقف عندها تكمن في أن الفكر التحديثي والحداثي وما بعد الحداثي كان ولا يزال يدعي صراحةً وضمناً أن ما توصل إليه هو “آخر صيحة في الفكر الفلسفي”.
لا بد إذن من إعادة النظر في تصوراتنا المعرفية السائدة عن مفهوم الحداثة الغربية بهدف تحريرها من عقدة التبعية العمياء أو الرفض المطلق. نحن بحاجة ماسة إلى تطوير رؤية نقدية قادرة على إعادة تأطير هذه الأفكار داخل منظومة معرفية أكثر تكاملاً وتركيباً. وفي هذا السياق، يعتبر “علم الإستغراب”، الذي دُعي إلى تأسيسه مقابل “علم الإستشراق”، من الأفكار الهامة التي لا بد من التوقف عندها، وهي بالمناسبة رؤية متقدمة ومشروعة، على أن يتم تحديد مضمون هذا العلم وأهدافه، فإذا كان المقصود به دراسة معمقة لكيفية تشكل الحضارة الغربية الحديثة وفهم ديناميات تطورها مرحلة بمرحلة، وبالتالي نقد هذه الحضارة من خلال فرز إيجابياتها عن سلبياتها وتجنب تقليد منجزاتها الفكرية والمادية حرفياً والتحرر من عقدة الإرتباط بمركزية الغرب ومشروعه التحديثي، فهذا هو المطلوب. ولكن إذا كان المقصود به دحض الغرب لمجرد أنه غرب، ونقد منجزاته لمجرد النقد، والقول أن كل ما نتج منه خاطئ أو إمبريالي إستعماري رأسمالي، فإن هذا المشروع لن يأتي بالنتيجة المرجوة، لا بل سيعمل على تعميق الأيديولوجيا المحافظة/الرجعية وتقوية المواقع الأكثر تخلفاً، وحينها سيصبح علم الإستغراب مدخلاً لاستحضار الماضي بكل تناقضاته وسلبياته، وسبباً للإفلات من عجلة التاريخ التي لا تتردد في سحق كل من يخرج عنها.