سيرين عبد النور والماروق دخلا في “دور العمر” ولم يخرجا منه
ناصر فقيه غرف من مأساة الحياة نصًا ورماه على الورق عذابات لا تنتهي. سعيد الماروق أخرج النص لوحة لاهثة وحركة متعبة وتحفة فيها جمال الألغاز. أما الأبطال فكلهم يدورون في فلك من السوداوية. “دور العمر”، إنه المسلسل المتعب وحلقات الغمامة التي لا تنتهي فصولها.
الحوارات مُقتضبة وكأنّها زفير اختناق لمَشاهد تُركت للكاميرا أن تقصّ كفايتها. والمخرج أبدع في سرد الحكاية المتعبة والمؤلمة والمؤذية أحياناً كثيرة. عادل كرم الذي يقوم بدور “أمير” أو “فارس”، هو ضحية لعنف زوج الأم الذي فقد والده نتيجة رصاصة لموكب أحد المتنفذين. وسيرين إبنة لأب خائن وظالم رماها في المصحات العقلية، وحولهم تدور فصول الظلم والإتجار بالمخدرات والإنسان.
اجتمع الأبطال على الانتقام، والماروق قام بعمله كأنّه يشكّل “فسيفساء” لا يلزمه سوى البصر والبصيرة، قادرًا أن يحيك كل لقطة دون حواشي. باقتضاب الحكماء لفّ مشاهده كأنّه يسطّر حكاية مرصوصة الأحداث، لا ملل ولا كلل ولا تريد أن تفوتك برهة. إنه مبدع في إخراج الذات من الذات، مبدع في لفّ مشاهده كأنه يقصّ حكاية على عجل، يجب أن تكون كل تفاصيلها واضحة وبأقل وقت ممكن.
هذا النوع من الإخراج المكثّف يتطلّب ممثلًا محترفًا تكون محياها هي الكلمة وهي الرسالة والتعبير. الصمت هنا هو كلام من نوع أخر يدخل ليصبح هو النص.
وسيرين عبد النور أجادت في ملامحها في سرد نصّها الصامت أمام الكاميرا التي تحسب عليها تنهداتها ولفتاتها ونظراتها ومشيتها وصوتها. خلعت سيرين كل ماضيها وبدأت تغزل حضورها الجديد الدسم أمام مخرج متطلب مبدع، يريد زبدة عمل ويريد موسمًا من تميّز.
المكر له نظرة والحزن له أخرى والانتقام والتشفّي له لفتته، والنصر أيضاً له محياها وعنقه، والانكسار له ملمحه. وكل هذا أجادته سيرين وأكثر، فخرجت من “دور العمر ” وكأنّها تدخله للتو. دور جديد استطاعت أن تتخطى كل عيوبها الماضية، لا سيما خامة صوتها، فأصبحت هنا أجش ومعبّرة أكثر، تُخرج الصوت من أحشائها وليس من لسانها.
سيرين بشخصية “شمس” كانت صادمة لنا ولنفسها، انتقلت بين طلّة الأشقر الساطع والأسود الغامض، وشذبت في طلتها كل الأغصان التي تثقل ولا تثمر، فكانت شخصية كاملة التعابير فيها أطنان من الأسى عندما يبيعها زوجها على طاولة القمار، وفيها كل الغضب عندما تكتشف خيانة والدها، وفيها كل المكر عندما تقول “أنا معك” وهي تعمل لتكون ضد.
في المقابل، عادل كرم يلعب دور البطل الذي لا يُقهر، الذي ينتقم بيده من الأشرار وينجح. إنه “روبن هود” الشاشة في هذا العمل، إنه “سوبر مان” الجديد الذي نريده في فصول حياتنا، قادر على التشفّي من الأشرار. وكان “قدّها”، فهو يليق به هذا النوع من الأدوار حيث القوة والصلابة والعنترة. لكن يفوت كرم قدرته على تطويع تعابيره في الحزن أو الأسى أو الانكسار. فهو شخصية وتدية دومًا مستنفرة وحادة، لا يقدر أن يبعث شرًا مخالفًا لوقدة عينيه الأصلية، وكأن حدقته لا تتلون إلا بلون واحد لا تعرف الانكسار ولا الحزن. إنه عمى الأدوار الذي يفوته.
كرم لا يقدر أن يمثل دور شخصية ضعيفة وهنة عاشقة. فهو من أصحاب النسق الواحد، تحتاج عجنته إلى خمير جديد ليتطوع في أدوار الضعف. صلابته وعوده تقف حائلاً دونها. وسيرين في هذا المكان تخطته بأشواط، فكانت لينة ومطواعة في إرسال صورتها المعبرة التي لا تحتاج كلاماً ولا شرحاً، يكفي أن تمر الكاميرا على عيونها لنعرف كنه مشاعرها وسردية بوحها.
“دور العمر” للوهلة الأولى نظن أنّه منفر ونكدي، لكن مع احتدام الأحداث نجد ضالتنا فيه كعمل فني يحمل من واقعنا الكثير ونجد فيه الاستشفاء الذي نبحث عنه، فهو مع نصرة الحق ضد الباطل والاقتصاص من الظالم. لكن يبقى أن الماروق كان عبثياً ومجنوناً عندما أسهب في مشاهد العنف والقتل والدم.
“دور العمر ” مجموعة حلقات، كل حلقة تعالج قضية معينة لكنها متألفة مع بعضها برابط واحد مشدود، والتآلف الأكبر يأتي من خلال الممثلين الذين أجادوا في أدوارهم سواء كانت كبيرة أو صغيرة، أمثال طلال الجردي، يارا فارس، جان دكاش، علي الخليل، ريموند عازار، نوال كامل، غبريال يمين، أنطوان بلبان، فؤاد يمين، سعيد سرحان، ميرنا مكرزل وغيرهم.
كمال طنوس