زاروب الباشا حيٌّ نائمٌ على كتف التاريخ
خلف المدينة الرياضية أزقة، وممرّات ضيقة وملتوية تقودك إلى “حيّ الباشا”. المشهد في هذا الحيّ يُعطيك فكرةً واضحةً أن هناك تباعداً واضحاً بين هذا الحيّ والاسم الذي أُطلقَ عليه. هذا في الحاضر، أما في الماضي فإن المشهد كان مختلفاً تماماً. فالحيّ الذي تحوّل اليومَ الى حيٍّ شعبيٍّ فقير ومهمّش، كانت تسكنه في الماضي عائلات ارستقراطيّة معظمها من العاصمة.
اليوم تغيَّر المشهد؛ معظم الجيل الشاب القاطن في هذا الحيّ لا يعرف شيئاً عن تاريخه، والسبب الذي دعا إلى تسميته بهذا الاسم.
كيان مختلف وتاريخ آخر
تاريخ التحوّل في هذا الحي يعود إلى أربعينيّات القرن الماضي. بعد أن قدمت إليه عائلات عدّة من مناطق بعيدة، وشيّدت لها مساكنَ غير شرعيّة على أراضي الغير، وخاصة على أراض كانت تخصّ عائلات مسيحيّة هجرت المنطقة منذ زمن بعيد، ولم تعد تسأل عن أملاكها، ومع مرور الزمن توارث الأبناء مساكن الآباء والأجداد، مما جعل لهذا الحيّ كياناً مختلفاً وتاريخاً آخر.
معظم مباني هذا الحيّ جرى تشييدها بطريقة عشوائيّة. يشهد على ذلك عدم وجود أية مسافات بينها. فهي تكاد تلتصق ببعضها البعض من شدّة اقترابها.
الناظر إلى هذه المباني يُدرك سريعاً أنها لم تشهد أية عملية ترميم أو صيانة منذ زمن بعيد، ويظهر ذلك من خلال التشققات على واجهاتها الخارجيّة.
هذا الإهمال، والذي يهدّد بعض الأبنية بالسقوط، يعزوه سكان الحي إلى حالة الفقر التي يعيشونها، والتي تمعنهم من إجراء صيانة دوريّة.
الداخل إلى بيوت هذا الحي يصدُمه المشهد أيضاً. الغرف ضيّقة وبالكاد تتسع لشخصين أو ثلاثة. أما الحمّامات فهي في الخارج. ضيق المكان له تأثيره على الأطفال أيضاً فهم لا يجدون فسحة للعب في الداخل. لذا تراهم لا يجدون مكاناً للعب غير الشارع أو على أسطح البيوت.
جريمة غيّرت الأحوال
البحث في تاريخ هذا الحيّ يقودك إلى الكاتب المسرحيّ “عبيدو باشا”، والذي ولد في هذا المكان وترعرع فيه. والذي يقول لـ “أحوال” القصة بدأت مع جدّي لوالدي “سعد الله باشا”، والذي كان يملك عقارات في هذه المنطقة تصل مساحتها الى 360000 ألف متر مربع، وهي كانت تمتدّ من المنطقة التي تعرف اليوم بمستديرة حبيب أبي شهلا وصولاً إلى حي العرب، والذي يقع بمحاذاة منطقة الفاكهاني.
عبيدو يضيف: “كان جدّي كريماً لدرجة أنه كان يسامح بطيب خاطر كل الذين يعجزون عن إكمال ما تبقى عليهم من أقساط من الأراضي التي تمّ شراؤها. ويتابع عبيدو، “رخص مواد البناء في ذلك الزمن كان عاملاً مشجّعاً لهؤلاء الذين اشتروا الأراضي لتشييد منازل لهم عليها”.
في البداية كان معظم الذين يقطنون هذا الحي هم “من عائلات الغلاييني والباشا والحريري، أما اليوم فإن أكثرية الساكنين أتوا من بيروت وجوارها، ومن مناطق صبرا وشاتيلا”.
الهناء الذي كان فيه سعد الله باشا لم يستمرّ الى ما لا نهاية. جريمة قتل ارتكبها شقيقه مصطفى غيّرت مجرى حياته، وأجبرته على بيع كل ما يملك تقريباً وترك المنطقة. القصة بدأت بخلاف بين المدعوّ “جورج المتني”، والذي كان معروفاً بشراسة طباعه، وإسكافي فقير كان يعمل في الحيّ. أقدم خلاله جورج على ضربه وشتمه؛ تدخّل مصطفى باشا لحل الخلاف، لكن جورج لم يستجب لمساعي الصلح. وهو قام بشتم والدة مصطفى.. فكان أن صمّم الأخير على قتله، مستعيناً بقريب له يُدعى عثمان باشا.
جريمة القتل هذه ما لبثت أن اكتشفتها سلطات الانتداب الفرنسيّ. فألقت القبض على كل من “مصطفى وعثمان” وحكمت عليهما بالإعدام. صدور الحكم بالإعدام أشعل توتراً كبيراً في المنطقة، وكاد أن يؤدي إلى ما لا تُحمَد عقباه لو لا تدخل سامي الصلح، الزعيم البيروتيّ المعروف ورئيس الوزراء الأسبق. جهود سامي بك أسفرت عن تخفيض الحكم إلى خمسة عشر عاماً بحق مصطفى، وإلى سبع سنوات بحق عثمان، وذلك بعد أن دسّ في جيب المفوض السامي محرمة حرير فيها ليرات إنجليزيّة. وأثناء وجوده في السجن أصيب مصطفى بمرض أقعده؛ فكان أن قام شقيقه سعد الله بالتنازل له عن نصف أملاكه شعوراً منه بواجبه تجاه شقيقه.
“كان سعد الله باشا رجلاً وطنياً بامتياز”، ولذلك قامت السلطات الفرنسيّة بإلقاء القبض عليه حيث أودعته السجن لمدة ثلاث سنوات قبل نفيه إلى جزيرة “رودس”، يقول عبيدو باشا في حديثه إلى “أحوال”؛ مضيفاً، “كان منزل “سعد الله باشا” مقصداً لكبار رجال السياسة في لبنان أمثال الرئيس شارل حلو، والرئيس صائب سلام والوزير السابق هنري بك فرعون، والرئيس عبد الله اليافي، خاصة في المواسم الانتخابيّة.
عبيدو ينقل عن والده “اوزدمير” حكاية “خليل شاتيلا”، وهو كان من وجهاء بيروت المعروفين في ذلك الوقت، وكان يزور حيّ الباشا باستمرار متبرعاً للفقراء والمحتاجين.
شكراً بيليه
قبل خسمين عاماً قدم “أبو حسين” مع زوجته الى الحي وسكنا فيه وأنجبا عائلة مؤلفة من اثني عشر ولداً، وهو لم يعرف له عملاً منذ ذلك التاريخ غير بيع الفول والترمس.. “كانت أياماً جميلة بالرغم من الشقاء والتعب” يقول أبو حسين لـ”أحوال”. أما أم حسين فتقول: “كنّا نتجوّل كثيراً بين المناطق نجرّ عربتنا، وكنا نصل في تجوالنا أحياناً إلى منطقة فرن الشباك البعيدة نسبياً عن “حي الباشا”. وتتابع، “كنا نبيع كباية الترمس بخمسة قروش، وكانت الغلة تصل أحياناً إلى ثلاث أو أربع ليرات في النهار الواحد. كنا ندّخر منها ليرتين ونشتري بالباقي طعاماً لأولادنا، ونعطيهم خرجيّة العيد”.
بدوره يصف “أبو حسين المنطقة في ذلك الوقت بالهادئة جداً. حيث كانت الرمال تغطي المكان.”، مترحماً على أيام كان فيها الجار للجار. ويضيف: “كنا ننام وأبوابنا مفتوحة خلال فصل الصيف، ولكن مع الوقت تغيّر كل شيء بحيث أصبحنا اليوم مضطرين أن نربط عربة “الترمس” بالجنزير خوفاً من سرقتها.
إن ينسَ أبو حسين وأم حسين، فهما لا ينسيان عام 1974 عندما جاء النجم الأسطورة “بيليه” للعب في المدينة الرياضيّة الى جانب فريق النجمة. “يومها ركّزنا العربة منذ الصباح الباكر على مدخل “المدينة الرياضية”. تقول أم حسين؛ وتضيف: الحضور الكثيف للمباراة جعل من نسبة المبيع في ذلك النهار تصل إلى مداها الأقصى، بحيث يومها بلغت غلتنا من المبيع أكثر من مئة ليرة.
غياب الخدمات والأمن
“نحن هنا نعاني من أوضاع معيشية صعبة”، هذا ما يقوله الحاج خالد في حديثه لـ”أحوال”، والذي يضيف: “عدم وجود شبكة لمياه الشفة جعل الناس هنا تعتمد على الآبار الارتوازيّة للحصول على المياه الصالحة للشرب، والتي تشح كميتها في فصل الصيف. “عملية حفر الآبار لم تحلّ المشكلة. السبب هو احتواء هذه المياه على نسبة كبيرة من الأملاح بسبب قرب المنطقة من البحر”. ويوضح، “الاستحمام بهذه المياه بسبب عدم وجود بديل أدّى إلى ظهور أمراض جلدية عند عدد كبير من سكان الحي”.
ليس عدم وجود المياه الصالحة للشرب هو المشكلة الخدميّة الوحيدة في حي الباشا. فعدم وجود شبكة للصرف الصحيّ يزيد من معاناة الناس في هذا الحي. حفر جور صحيّة لم يحل المشكلة، بل زاد من معاناة من أهل الحي، الذين عليهم تحمّل الروائح الكريهة التي تنبعت من المياه الآسنة التي تفيض من تلك الجور بين فترة وأخرى حاملة معها الأمراض إلى أهل الحيّ.
مشكلات حي الباشا لا تنتهي عند هذا الحد، فمشكلة الكهرباء في هذا الحي مشكلة المشاكل. النقص في المحولات الكهربائيّة التابعة لمؤسسة كهرباء لبنان في المنطقة جعل الناس تعتمد على “التعليق” بطريقة غير شرعيّة في محاولة لإيجاد البديل.
مشاكل الحي لا تقتصر فقط على الخدمات وشظف العيش. الأوضاع الاقتصاديّة السيئة وتنامي نسبة البطالة أفرزت مشكلة من نوع آخر، وهي ازدياد نسبة متعاطي الحشيشة وحبوب الهلوسة. “الحاج خالد” يأخذ على القوى الأمنيّة عدم جدّيتها في مكافحة هذه الظاهرة مما جعلها تنمو وتتسع. الأمر الذي يؤدي في أحيان كثيرة إلى تضارب وعراك بين المتعاطين يتخلله أحياناً إطلاق نار.
نبيل المقدم