على مجموعات البيع والشّراء المنتشرة على مواقع التّواصل الاجتماعي، تستطيع أن تجد كل شيء، من مواد غذائية وسيّارات وديبو البيئة، إلى الملابس والأثاث المنزلي، وأحيانًا تجد عديم إنسانية يبيع المدبّرة المزليّة لديه كأيّ سلعة، إنّه بلد العجائب، لكن ما فاجأ متصفّحي هذه المواقع، عرض مسرح الشاتو تريانو – الزّلقا للبيع، ما يفتح الباب للسؤال عن واقع المسارح في لبنان، كيف لا وهذا المسرح يعدّ واحدًا من آخر ما تبقى من المسارح اللّبنانية.
لقد شكل لبنان على مدى العقود الماضية، ملتقى لكلّ أنواع الفنون بما فيها المسرح، وأكثر ما شدّ أنظار الفنّانيين تجاه مسارح بيروت هو الحريّة المطلقة، وفق ما أشار الصّحافي المتخصّص بالمسرح وصاحب مدوّنة ماكيت الثّقافية خليل الحاج علي في حديث خاص لـ”أحوال”.
ولفت الحاج علي إلى أنّ خشبات المسارح في لبنان شهدت زخمًا وإنتاجًا فنيًا، لم تشهده أي دولة عربية من قبل، من مسارح الشانسونيه مع حسن علاء الدين (شوشو)، ومهرجانات بعلبك والمسرحيّات الغنائيّة التي قدّمها الرّحابنة، كما ساهمت جهود أنطوان ولطيفة ملتقى، ومنير أبو دبس وغيرهم، بإرساء معالم معاصرة للمسرح في بيروت، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الانهيار على المستوى الفكري والثّقافي، لم يثنِ بيروت عن استضافة أهم الفرق المسرحيّة المعاصرة من حول العالم، على سبيل المثال تفرّدت بيروت، دون غيرها من المدن العربية، على مدى سنين، بمهرجان بيروت للرقص المعاصر، واليوم انتقل مؤسس المهرجان عمر راجح إلى باريس للإقامة فيها، وحُرمت بيروت من هذا المهرجان على المستوى العالمي، ناهيك عن جهود الخرّيجين من الجامعة اللّبنانية، وإنشاء الفرق المسرحيّة الشّابة، والعروض المسرحيّة المعاصرة، على مدى السّنوات السّابقة.
وبعد كل هذا الزّخم، تقفل المسارح التي كانت تبلغ حوالي 33 مسرحًا، اليوم لم يعد هناك سوى القليل منها كمسرح المدينة، ومسرح الجميزة، ومسرح دوار الشمس، وعدد قليل من مسارح الجامعات، وما بقي مفتوحًا منها، يشهد أزمةً لا سابق لها، بفعل سياسات الحكومة التي لا تولي أيّ أهمية للفنانيين والمشاريع المسرحية والثقافية في ظل الأزمات المتلاحقة من وباء وانفجار وانهيار اقتصادي، وفق ما أشار الحاج علي.
مصدر خاص في وزارة الثّقافة اعتبر أنّ فيروس كورونا الذي ضرب العالم قد فرض نفسه على أجندة مختلف القطاعات، راسمًا خارطة جديدة للتوازنات الاقتصادية والاجتماعية والثّقافية لكلّ البلدان، كما أجبرت جائحة كورونا الكثير من المسارح العالمية التي لم تكن لتقفل أبوابها على الإغلاق، وأن تسدل الستار على عشارت العروض. أمّا في لبنان الذّي يعيش تحت وطأة أزمة اقتصادية بدأت ملامحها منذ أواخر العام 2019 مع انطلاق الاحتجاجات الشعبية، مرورًا بتداعيات جائحة كورورنا الصّحية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وصولًا إلى انفجار المرفأ في الرابع من آب، الذي قضى على واجهة بيروت التراثية ومنها عدد من المسارح المتواجدة في المنطقة المنكوبة.
ولفت المصدر إلى أنّه في السّنوات السّابقة كانت وزارة الثقافة تقدّم دعمًا للقطاع المسرحي، عبر تقديمها الدّعم المادّي للمسرحيّات المنوي عرضها، وهذا الدّعم وإن لم يكن يسد الحاجات المطلوبة، إلّا أنّه كان مساهمة من الوزارة في هذا القطاع، لكن الوضع تغيّر إلى الأسوأ منذ العام 2019، إذ لم تعد هذه البنود من الدّعم ملحوظة لكثير من القطاعات، كالسّينما أو المسرح أو الأدب أو غيرها، بسبب التخفيضات التي طالت موازنات الوزارة، في ظلّ الأوضاع الكارثيّة في البلد.
وزير الثّقافة في حكومة تصريف الأعمال عبّاس مرتضى لفت إلى أنّ الأزمات الاقتصادية والسّياسيّة المتلاحقة، وغياب السيّاح الذّين كانوا يرتادون المسارح اللّبنانيّة، أدّى إلى هذه النّكسة على صعيد المسارح، مبديًا أسفه لإغلاق العشرات من المسارح أبوابها، بعد أن كانت عَلَمًا من أعلام الثّقافة والحضارة للبنان.
كذلك لفت مرتضى إلى أنّ الوضع المأساوي للممثلين الذّين يعانون من غياب الحوافز والضّمانات، دفع العشرات منهم إلى هجرة المسرح، أو الهجرة إلى خارج لبنان، مطالبًا الحكومات المقبلة أن تولي الاهتمام اللّازم للممثّلين والمسرحيّين والفنّانين، وتؤمّن لهم الضّمانات، كي يعودوا إلى نشاطهم وإلى خشبات مسارحهم.
أسدلت العشرات من المسارح اللبنانية ستاراتها إلى أجلٍ غير مسمّى، ومعها أسدلت السّتارات على محطّات مشرقة في تاريخ المسرح اللّبناني الذي وصلت أصداؤه إلى دول العالم، ومع إغلاق هذه المسارح أبوابها، يخسر لبنان دعامة ثقافيّة لطاما تفاخر وتغنّى بها، إنّه الإفلاس على كافّة المستويات، على أمل أن تحصل معجزة لتنتشل لبنان من هذه النّكسات، فلبنان لا يليق به إلا النّجاحات.
منير قبلان