الفِرار العسكري إلى ارتفاع… الراتِب لا يُساوي المُخاطرة
لم يعد الإقبال على مؤسستي الجيش وقوى الأمن الداخلي كما كان في الماضي. ظروف كثيرة تغيّرت، سياسيّة وأمنيّة واقتصاديّة وماليّة. فـ”جنّة” الوظيفة التي اعتاش في كنفِها العسكريّون من الفئات المختلفة والتقديمات والتسهيلات المتنوعة التي تمتعوا بها طيلة العقود الماضية، والتي جعلت الدخول إلى السلك العسكري حلماً يراود الشاب في مقتبل العمر، تحوّلت إلى نقمة دفعت بمئات العسكريين إلى التوجه للتقاعد المبكر من الخدمة.
لكن مع تردّي الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية والنقدية، شهدت مؤسستا الجيش وقوى الأمن الداخلي في الآونة الأخيرة تململاً في صفوفها وإقبالاً كبيراً على طلب الإحالة على التقاعد. لكن قيادة المؤسستين بحسب معلومات “أحوال”، أوقفتا التسريح والتقاعد لأسباب متعددة، ما رفع حالات الفرار كحل أخير أمام العسكريين الذين يفضلّون ترك الخدمة والعمل في مهن ومصالح أخرى أو السفر للخارج.
فما هي حقيقة الفرار من الجيش وقوى الأمن الداخلي؟ وما هي الأسباب؟
تدني قيمة الرواتب
بعد أحداث تشرين الأول 2019 وتردّي الأوضاع كافة، تحوّلت الحياة العسكرية إلى أشغال شاقة، بحسب ما يردّد عشرات العسكريين سيّما في الوحدات الميدانية القتالية والمكلّفة بالإشتباك في الخطوط الأمامية كمغاوير الجيش والأفواج المجوقلة، وقوة مكافحة الشغب في قوى الأمن الداخلي الذين كُلّفوا بمهمات متعددة – حماية الحدود الجنوبية والشرقية والشمالية ومواجهة الخلايا الإرهابية ومجابهة التحركات الشعبية في مختلف المناطق اللبنانية. حتى أصبح العسكريون في شبه حالة طوارئ ويوضعون في مواجهة المتظاهرين ويتعرّضون لأعمال عنف واعتداءات وإهانات من المواطنين، من دون تعليمات صريحة تمكّنهم من الدفاع عن أنفسهم، حتى سقط منهم الكثير من الشهداء والجرحى؛ وهذا ما حصل في أحداث طرابلس الأخيرة، حيث خاض الجيش والقوى الأمنية حرباً حقيقية مع المشاغبين.
وتكشف المصادر عن ازدياد في نسبة برقيات البحث والتحري بحق عناصر فارين من خدمتهم العسكرية، خصوصاً أولئك الذين يخدمون في طرابلس والبقاع.
بعيداً عن الواجب الوطني الذي يدفع الشاب اللبناني إلى الإنضمام إلى المؤسسات العسكرية، إنّ القسم الأكبر منهم يجدون فيها “وظيفة دولة” مع راتب مقبول قبيّل انهيار الليرة، بالإضافة إلى ضمانات صحية شاملة وتقديمات اجتماعية ومخصصات عائلية وراتب تقاعدي مع تعويض نهاية الخدمة. لكن بعدما قضم ارتفاع سعر صرف الدولار 70 في المئة من رواتبهم زاد الدافع لديهم لترك المؤسسة؛ خاصة بعدما تبين أنّ مشروع قانون موازنة 2021 يتضمن تخفيضات واسعة في التقديمات الاجتماعية والعائلية والتقاعدية للعسكريين خصوصاً، وموظفي القطاع العام عموماً. وهناك سبب آخر هو وقف القروض المصرفية والسكنية الميسرة بكافة أنواعها التي كانت تخصص للعسكريين لتسهيل حياتهم.
ويتحدث عسكريون في الجيش وقوى الأمن الداخلي عن أوضاع صعبة يعيشونها سيّما مدة الخدمة الطويلة والمكان البعيد عن مكان سكنهم. فلم يعد راتب (مئة دولار) يستأهل التضحية مقابل دوام عمل 7 أيام متواصلة و3 في المنزل وحجم مخاطرة كبير. فضلاً عن أن تعويض نهاية الخدمة (بين 18 و25 سنة) والذي يبلغ ما بين (100 مليون ليرة أو 200 مليون) لم يعد يساوي أكثر من 10 أو 20 ألف دولار، هذا إن بقي سعر الصرف 10000 ل.ل للدولار الواحد حتى موعد التقاعد.
وفي تقدير مصادر مطلعة لـ”أحوال”، أنّه في حال فتحت المديرية العام لقوى الأمن الداخلي أو قيادة الجيش أبواب التسريح، فنصف العسكريين يقدمون طلبات تسريح خاصة الذين أصبحوا في السن القانونية.
رفض طلبات التقاعد
وتتحدث مصادر “أحوال” عن تزايد حالات الفرار خلال الأشهر الأخيرة الماضية، سيّما وأنّ المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وقيادة الجيش أوقفتا طلبات التسريح لمن لديهم 18 سنة خدمة وما فوق أيضاً، إضافة إلى وقف جميع أنواع أذونات السفر خارج البلاد، باستثناء الحالات المرضية التي تُعالج خارج لبنان. كما تشير إلى أنّ “القيادتين احتفظتا بجوازات سفر عسكريين لديها لمنع السفر. أما السبب بحسب “معلومات “أحوال”، فإنّ الذين رفضت طلبات تسريحهم يغادرون لبنان بحجة السياحة ويبقون هناك، ما يدفع المؤسسة لفسخ عقد العمل ومنحهم تعويضات صرف بحسب القانون العسكري، ثم يجدون عملاً أو يفتحون مصالح هناك أو يعودون إلى لبنان بعد سنوات لتبييض سجلهم العسكري والقانوني ويكملون حياتهم بشكل طبيعي”.
وتتحدث المصادر عن 300 حالة تسريح، وفرار من الخدمة في قوى الأمن الداخلي خلال الأشهر الماضية، من بينهم ستة ضباط برتب مختلفة (قدموا تسريحهم وتم قبولها)؛ سيّما وأنّ الكثير من الضباط والعسكريين يحوزون على شهادات في اختصاصات علمية جامعية وتقنية كالهندسة والطب والتمريض وإدارة الأعمال وغيرها، ويمكنهم إيجاد فرص عمل في لبنان براتب أعلى أو في الخارج بـ(2000 أو 3000 دولار) أي (20 أو 30 مليون ليرة لبنانية) بدل البقاء على راتب 150 أو 200 دولار في الجيش وقوى الأمن.
أسباب سياسية تدفع للفرار
ورغم أن القانون اللبناني يمنع انتساب العسكريين الى أحزاب سياسية وجمعيات ولا حتى الحديث في السياسية، لكن أغلب العسكريين يناقشون التطورات السياسية ولديهم آراء وقناعات وانتماءات سياسية غير ظاهرة ويتأثرون بالأحداث في البلد، ما زاد مخاوفهم من تأزم الوضع السياسي والإنفجارات الاجتماعية والأمنية المقبلة، وأعمال العنف، وارتفاع نسبة الجريمة، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تقسيم طائفي ومناطقي للبنان وانهيارات أكثر في قيمة الليرة.
مخطط للمس بالمؤسات الأمنية
في المقابل، تشير مصادر مطلعة على الملف لـ”أحوال” إلى أنّ “حالات الفرار محدودة، ويجري تضخيمها للنيل من ثقة العسكريين والمواطنين بالمؤسسات العسكرية، التي تقف وحيدة لحماية الأمن الداخلي والحدود اللبنانية ضد الإرهاب والعدو الإسرائيلي”. وترى بأنّ “هناك من يمارس سياسية التحريض الممنهج لدفع العسكريين للتقاعد أو الفرار بذريعة تدني القيمة الشرائية للرواتب”.
وتذهب المصادر بعيداً بوجود مؤامرة للنيل من السلم الأهلي والاجتماعي في لبنان، وذلك بضرب المؤسسة العسكرية كآخر معاقل عوامل الإستقرار في لبنان، والتي تحظى باجتماع والتفاف وطني عارم والبعيدة عن الإنقسام الداخلي”. وتشير إلى أنّ “الوظيفة العسكرية لا تزال تؤمن أفضل الراتب والخدمات لعسكرييها في ظل تردي الأوضاع المالية والاقتصادية في لبنان وارتفاع معدلات البطالة في البلد”.
محمد حمية