بالأدلّة والتّواريخ… هدر الوقت “خطيئة” يتشارك فيها عون والحريري
تشكيل الحكومة ضحية حرب المواقف بين "المستقبل" والعونيين
لم يعد يكترث اللبنانيون لعدد اللقاءات بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف منذ 22/10/2020 سعد الحريري، صحيح انها بلغت 14 لقاء حتى الآن ولكن يبدو درب الجلجلة طويلاً ولا حكومة في الآفق. الخلاصة عشية إنتهاء الشهر الرابع للتكليف أن هدر الوقت “خطيئة” يتشارك فيها الرئيسان المسؤولان معاً دستورياً عن ولادة الحكومة، وربما بشكل أدق الرئيس الحريري والنائب جبران باسيل من خلف عمه الرئيس عون الذي لم يخجل سابقاً من تعطيل البلد لأشهر قائلاً “كرمال عيون جبران لعمرها ما تتشكل الحكومة”.
أجواء انطلقت إيجابيّة
“إنّني سأنكب بداية على تشكيل الحكومة بسرعة، لأن الوقت داهم، والفرصة أمام بلدنا الحبيب هي الوحيدة والأخيرة”، هذا ما اعلنه الحريري عقب لقائه الاول بعون وإنطلقت اللقاءات بزخم بينهما وسط إقتضاب بتصاريح الحريري والبيانات الصادرة عن بعبدا ولعب على المفردات حتى أضحت ممجوجة:
* الإجتماع الثاني في 24/10/2020، قال الحريري “الجو إيجابي”.
* الإجتماع الثالث في 25/10/2020 ، أعلنت بعبدا “تقدم في ملف التشكيل”.
* الإجتماع الرابع في 27/10/2020، تحدثت بعبدا عن “جو من التفاهم على ما تحقّق حتى الآن من تقدّم”.
* الإجتماع الخامس في 28/10/2020 ، أشارت بعبدا الى “أجواء من التقدم والتأني”.
* الاجتماع السادس في 2/11/2020، أعلنت بعبدا عن “جوّ من التعاون والتقدّم الإيجابي”.
* الاجتماع السابع في 6/11/2020، تحدثت بعبدا عن “إستكمال درس تشكيل الحكومة الجديدة في أجواء إيجابيّة”.
العقوبات على باسيل تخلط الأوراق
شهد لقاء 6/11/2020 “صفعة” مدوية بحق باسيل ومفصلية في مساره السياسي حيث أعلنت الخزانة الاميركية فرض عقوبات عليه في إطار قانون “ماغنيتسكي”، ما إنعكس خلط أوراق في التشكيل. إذ عُقِد بعده إجتماعان في 7 و 9/11/2020 أعقبهما بيانان بلا لون خاليان من التعابير الإيجابية أو السلبية، ثم فقد بعدها التشكيل زخم اللقاءات المتتالية بين الرئيسين وبدأ يشهد فرملة تدريجية.
فالبيانات التي صدرت منذ تكليف الحريري عن تكتل “لبنان القوي” والهيئة السياسية في “التيار الوطني الحر” أشارت الى “التزام أقصى الدرجات في تسهيل ولادة الحكومة والتمسك بوحدة المعايير وعدالتها والانتظار بإيجابية نتائج المشاورات بين الرئيسين لتحديد كيفية التعاطي مع مسألة التشكيل”.
كما أعلنت أن باسيل “التزم الصمت ولم يشارك في عملية التشاور إطلاقاً حتى الآن رغبة منه في تسهيل عملية التشكيل واعطاء الفرصة لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف للاتفاق على حكومة”. وشددت على ان “التكتل ومن موقعه الدستوري والتمثيلي مصمم على مواصلة التعاطي بايجابية، الا ان ذلك لا يفقده حقه في التشاور والتحاور واتخاذ الموقف المناسب”.
هذه اللهجة المقبولة نسبياً أصبحت مقلوبة منذ المؤتمر الصحافي لباسيل للرد على العقوبات في 8/11/2020 حيث إعتبر أن “العقوبات يجب أن تكون سبباً للتسريع بالتأليف (…) إلاّ إذا كان أحد يريد إستكمال لعبة الخارج – القائمة على التعطيل أو التخريب – من الداخل، ويسعى لإستهدافنا من دون غيرنا، ولتحجيمنا او لإقصائنا”.
وراح باسيل يصوّب على الحريري بالقول “سكتنا حتى الآن لإعطاء أكبر فرصة ومجال ممكن من الإيجابية مع إحساسنا لكي لا أقول علمنا بأن النوايا ليست كما يجب”، معتبراً أن عدم إمكانه إعطاء رأيه “إرهاب سياسي والغاء للذات”. كما حذّر من أنه لن تكون عودة الى الماضي ما قبل الـ 2005 غامزاً أن الحريري يريد تسمية كل وزراء الحكومة، أو كل الوزراء المسيحيين بإسم الإختصاص والتبرير بالوضع الاقتصادي المنهار وبالرهان على عقوبات.
بعدها، عمدت بيانات “التيار” إلى التركيز على إحترام الشراكة المتكافئة وتفادي الجمع بين حقيبتين بيد وزير واحد لأن في ذلك ضرب لمعياريّ الإختصاص والقدرة على الإنتاجية، مع العلم أن التيار كان دعا سابقاً للفصل بين النيابة والوزارة لتعزيز الإنتاجية قبل أن يتراجع عن ذلك حين إنتخب باسيل نائباً. كما أن رفضه جمع حقيبتين يعني عملياً عرقلة تشكيل حكومة من 18 وزيراً كان تم الاتفاق عليها بين الرئيسين بهدف تعزيز حظوظ إمتلاكه الثلث المعطل.
فراح ينبّه الى وجود معطيات اكيدة ومؤشرات مقلقة توحي برغبة البعض بالعودة الى “زمن الإقصاء والتهميش” و”قضم الحقوق”، متحدثاً عن “محاولات أصبحت واقعاً لتجاوز الأحكام الدستورية والقفز فوق صلاحيات رئيس الجمهورية الذي هو وفق الدستور شريك كامل في عملية التأليف”. كذلك، لم يكتف بالحديث عن “مسار متقلب في عملية التشكيل” بل إتهم الحريري بالمماطلة، محملاً إياه “مسؤولية أخلاقية ووطنية فمن غير المقبول ربط التشكيل بتبدّل الظروف وبالضغوط الحاصلة”، متحدثاً عن “خلق جدران طائفية لوقف مكافحة الفساد”.
في المقابل، توالت الردود المستقبلية على باسيل، الى حد قول النائب وليد البعريني له “ما أفصحك محاضراً بالعفة السياسية والحرص على البلد، والعفة منك براء. دوماً تصور نفسك ملاكاً بريئاً وتعتبر الآخرين شياطين، فلو كنت جديداً على الساحة السياسية لكان البعض صدق كلامك، لكنك مجرب ومخرب على مدى سنوات طوال ولا يُصلح الكلام ما أفسدته طوال ١٥ عاماً من التحكم بالبلاد”.
حراك الراعي ومساعيه لتفعيل المسار الحكومي
في ظل جمود المسار الحكومي، بادر البطريرك بشارة الراعي للتواصل مع الرئيسين لتحريك عجلة التأليف، فزار بعدها الحريري بعبدا في 7/12/2020 ثم في 9/12/2020 وقدّم تشكيلة حكومية من 18 وزيراً وعرض طرحاً متكاملاً حولها، معلناً أن رئيس الجمهورية وعده بدرسها وسيعاودان اللقاء “في جو إيجابي”. فيما ذكر بيان رئاسة الجمهورية ان “في المقابل سلم الرئيس عون الرئيس المكلف طرحاً حكومياً متكاملاً يتضمن توزيعاً للحقائب على أساس مبادئ واضحة”.
جريصاتي “ساعق تفجير” مع “المستقبل”
بينما كان “المستقبل” في 13/12/2020 يدعو رئيس الجمهورية للموافقة “على التشكيلة التي ترتقي فوق المحاصصة الحزبية” ويهاجم العونيين قائلاً: “هم من حقهم تعطيل تشكيل الحكومات، كرمى لعيون الصهر، أو بدعوى فرض المعايير التي تجيز لقيادات الطوائف تسمية الوزراء وإختيار الحقائب والتمسك بالثلث المعطل، حتى ولو إضطرتهم المعايير للقضم من حصص الطوائف الأخرى”، وجّه مستشار رئيس الجمهورية الوزير السابق سليم جريصاتي كتاباً مفتوحاً إلى الرئيس المكلّف عبر “النهار” في 14/12/2020 شكل ساعقة تفجير للعلاقة المتوتر بين الطرفين. فإعتبر أنّ المهلة المعقولة لتأليف الحكومة قد مضت وأثار مسألة تحديد المهلة لأن غيابها يشكل ثغرة في الدستور، مستشهداً بمواقف لوزيرين سابقين من “المستقبل” بهيج طبارة وخالد قباني.
كما لمّح الى توسّل المبادرة الفرنسيّة أو إستغلال العقوبات المفروضة أميركيّاً على باسيل للإستقواء على الشريك الدستوري الحتمي والفعلي، مضيفاً: “هذا كلّه ما لا أراه فيك”. وختم: “نحن لا نعادي من شاركنا في صناعة التغيير حتى لو استعصى عليك الإصلاح، فلا تحجبنا من ناظريك، وأقدم إلى الرئيس وضع كفّك بكفّه (…) إنّ التاريخ سينصف هذا القائد الذي غدر به الزمن بفعل القدر أو البشر، ومن وقف كتفاً إلى كتف بجانبه من أولياء القرار لخلاص لبنان”.
فردّ المكتب الاعلامي للحريري، معتبراً أن “الاجوبة التي يبحث عنها المستشار موجودة لدى رئيس الجمهورية، ومشيراً الى ان في كل مرة التقى الحريري عون كان يعبّر عن إرتياحه لمسار النقاش، قبل أن تتبدل الامور بعد مغادرته. كما كشف أن “الحريري يريد حكومة إختصاصيين غير حزبيين لوقف الانهيار فيما عون يطالب بحكومة تتمثل فيها الأحزاب السياسية كافة، سواء التي سمت الرئيس المكلف أو تلك التي إعترضت على تسميته، الأمر الذي سيؤدي حتماً للامساك بمفاصل القرار فيها وتكرار تجارب حكومات عدة تحكمت فيها عوامل المحاصصة والتجاذب السياسي”.
كذلك، دعا “المستقبل” رئيس الجمهورية للتوقيع على مراسيم التشكيل ووضع المصالح الحزبية التي تضغط عليه جانباً، وأهمها المطالبة بثلث معطل. وختم غامزاً من قناة باسيل: “حبذا لو أن معالي المستشار يقوم بتعديل وجهة رسالته الى الجهة المسؤولة عن تأخير التأليف وهي على مسافة خطوات من مكتبه في القصر الجمهوري”.
دخلت بعبدا على الخط وكان ردّ على الردّ، مما جاء فيه ان “رئيس الجمهورية لم يسلّم لائحة بأسماء مرشحين للتوزير، بل طرح خلال النقاش مجموعة أسماء كانت مدرجة في ورقة أخذها الرئيس المكلف للاطلاع عليها، واستطراداً لم تكن هذه الورقة معدّة للتسليم، أو لاعتمادها رسمياً بل أتت في خانة تبادل وجهات نظر”.
عيدية لم تأت
فيما كانت بعبدا تضطر لإصدار بيانات متكررة لنفي أي تدخل لباسيل بالتشكيل وأي مطالب بالثلث المعطل بلغ عددها نحو 10 حتى تاريخه، كرّر البطريرك الراعي مساعيه، فزار الحريري بعبدا في 22/12/2020 متحدثاً عن “جو من الإنفتاح” ولقاءات متتالية للخروج بصيغة تشكيل حكومية قبل الميلاد”، ثم عاد في اليوم التالي أي 23/12/2020 وأعلن تبدّد جو التفاؤل وعدم التوصل لإتفاق نهائي بمسألة التشكيلة داعياً الجميع للتواضع والتفكير بمصلحة البلد.
غادر الحريري لبنان في عطلة الاعياد، فأصدر تكتل “لبنان القوي” بياناً في 5/1/2021 يدعوه “للتوقف عن إستهلاك الوقت والعودة من السفر، لينكبّ على ما هو مطلوب منه، وعدم إختلاق العراقيل الداخلية لإخفاء الأسباب الحقيقية وراء تأخير عملية التشكيل”.
ردّ مكتب الحريري معتبراً أن “التكتل” يعود لسياسته المفضّلة بتحميل الآخرين مسؤولية العراقيل التي يصطنعها عن سابق تصور وتصميم، ومشيراً الى أن الحريري قدم تشكيلة وهي تنتظر إنتهاء عون من دراستها.
واصل باسيل هجومه في 10/1/2021 قائلاً: “لا نأتمن الحريري على الإصلاح” وكاشفاً عن التقدم بمشروع تعديل دستوري يحدد لرئيس الجمهورية مهلة شهر لإجراء الإستشارات النيابية ولرئيس الحكومة المكلف مهلة شهر لتأليف حكومته وإلا الإعتذار.
عون: الحريري يكذب
بعد ساعق جريصاتي، إنفجار من العيار الثقيل بين الرئيسين حين إنتشر فيديو من اللقاء بين عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب في 11/1/2021 يتّهم فيه رئيس الجمهورية الحريري بـ”الكذب حول إعطائه ورقة حكومية، وبما يصدر عنه من تصريحاتٍ”، منتقداً أسفاره ومشيراً إلى أن “لا تأليف”.
سريعاً، أتى الردّ من الحريري عبر “تويتر”، فنقل عن “الكتاب المقدس – سفر الحكمة” “إِنَّ الْحِكْمَةَ لاَ تَلِجُ النَّفْسَ السَّاعِيَةَ بَالْمَكْرِ، وَلاَ تَحِلُّ فِي الْجَسَدِ الْمُسْتَرَقِّ لِلْخَطِيَّةِ لأَنَّ رُوحَ التَّأْدِيبِ الْقُدُّوسَ يَهْرُبُ مِنَ الْغِشِّ، وَيَتَحَوَّلُ عَنِ الأَفْكَارِ السَّفِيهَةِ، وَيَنْهَزِمُ إِذَا حَضَرَ الإِثْمُ”. فيما غرّد امين عام “المستقبل” أحمد الحريري قائلاً: “تويتر فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس #للكذب_عنوان_عون_وجبران” وأرفقها بتغريدة سابقة لبعبدا أعلنت فيها تسليم الحريري تشكيلة لعون.
اليوم نحن أمام تقاذف كرة التعطيل بين الرئيسين، وربما يمكن إدراج زيارة الحريري الأخيرة بطلب منه إلى بعبدا في 12/2/2021 في هذا الأطار بعد إنقطاع دام 50 يوماً ليصرّح بعد اللقاء الرابع عشر ألا تقدم ولكنه سيواصل التشاور و”ليتحمل كل فريق سياسي مسؤولية مواقفه من اليوم فصاعداً”، فسارعت رئاسة الجمهورية لإصدار بيان اعلنت فيه أن “الرئيس المكلف لم يأت بأي جديد على الصعيد الحكومي”.
تحوّلت مواقف الفريقين الى لعبة Ping Pong، فالرئيس المكلف تطرق في كلمته إلى اللبنانيين لمناسبة الذكرى الـ16 لاستشهاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري، عن خلفيات أزمة التشكيل ووقائع ومشاوراته مع رئيس الجمهورية معلناً أنه صبر كثيراً، وأنتظر كثيراً، وما زال يعطي فرصاً، “لكن الافتراء صار كبيراً والكذب بات لا يحتمل”.
رفع الحريري لائحة قال إن عون سلّمه إياها باليد في اللقاء الثاني بالألوان لكل الاسماء التي يجدها مناسبة برأيه للتوزير، معلناً أن تشكيلة الـ18 التي قدمها تضم 6 وزراء واحد منهم من الطاشناق المنتمي الى “تكتل لبنان القوي”، 4 أسماء من اللائحة الملونة، والسادس شخصية مقرّبة من عون الذي سبق وطلب منه شخصياً أن يدعم ترشيحها لمنصب مرموق .كما فنّد مسألة “الثلث المعطل” وتداعياته السلبية ورفضه الجازم له.
وما كاد ينهي كلمته حتى أتى الرد من رئاسة الجمهورية التي إتهمت الحريري بـ”إستغلال ذكرى استشهاد والده مرة جديدة” وبتضمين كلمته عن تشكيل الحكومة العتيدة “مغالطات كثيرة وأقوالاً غير صحيحة” وبأنه “يحاول من خلال تشكيل الحكومة فرض أعراف جديدة خارجة عن الاصول والدستور والميثاق” .
بين مطرقة إصرار الحريري على عدم الإعتذار وسندان تمسك عون – ومن خلفه باسيل – بالتوقيع على حكومة يقتنع بها والصراع على الحصص الوزارية بينهما، لبنان لم يعد يحتمل الضربات فيما شعبه مشلّع بين الفقر والبطالة وخسارة أمواله وترهل المنظومة الصحية وإنهيار الأمن الاجتماعي. فهل يستفيق الرئيسان ويستدركان الأمور ويفرملان النزول الموعود الى أعماق “جهنم”؟