سيناريوهات العزل والإقالة تكتب نهاية رجل مجنون
مجلس النواب يقر محاسبة ترامب ويبدأ محاكمة ترامب وفق المادة الثانية من الدستور
يرثي الكتّاب الأميركيون وسياسيون ومشرعون الديموقراطية الأميركية، التي ضُرِبَت في عمقها مع مشهد اقتحام مبنى الكونغرس وتخريبه. صورة البلاد التي تُقدّم نفسها على أنها زعيمة العالم الحرّ منذ زمنٍ طويلٍ ضُرِبت في بيت ديموقراطيتها بسبب طيش رئيسها ولغته الساخطة والمليئة بالكراهية. الرئيس المهزوم يدفع ثمن “جرائم” تهشيم صورة الولايات المتحدة البرّاقة وقيمها وثمن إخراجه نقيض هذه الصورة من صلب أميركا نفسها من خلال لوائح اتهامات لمحاكمته وعزله. ومع استبعاد خيار استخدام تفعيل التعديل الـ25 الدستوري لعزل الرئيس بعد رفض نائبه مايك بنس ذلك، تجنبًا لمشاهد أكثر خطورة، بقي أمام مجلس النواب الأميركي اللجوء إلى المحاكمة البرلمانية.
دونالد ترامب الذي نزل عاصفة هوجاء على المؤسسة السياسية المحلية الأميركية كما العالمية، اقتلع معه كل مفاهيم العمل السياسي واللغة الدبلوماسية بلغته الفجة ونزعته للربح الدائم مستخدمًا لغة الابتزاز والتهديد والوعيد و “الشطط في استخدام السلطة”. نجح في إبقاء نائبه اليميني، شديد الولاء إلى جانبه مع رفضه اللجوء إلى خيار عزل ترامب ليقطع الطريق أمام الديموقراطيين الحالمين بالقضاء على ترامب نهائيًا ومنعه من القيام بأي دور في المستقبل.
بلغة جازمة، حسم نائب الرئيس الأميركي قراره بعدم اللجوء إلى تفعيل التعديل الـ25 للدستور واعتبر أنه وسيلة غير مناسبة للمحاسبة داعيًا المشرّعين إلى “تفادي خطوات من شأنها المساهمة في مزيد من الانقسام”. واعتبر في رسالة وجهها إلى رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، المتعطشة لإذلال ترامب، أنَّ “تفعيل التعديل 25 من الدستور ليس وسيلة للعقاب وسيؤدي إلى إرساء “سابقة مروعة”. وفي حين دعا مجلس النواب إلى الوحدة وتفادي كل ما يؤجج الخلافات أكد “لن أرضخ الآن للمشرعين لممارسة ألاعيب سياسية”.
الديموقراطيون ماضين في مسار متلاحق لمحاكمة ترامب برلمانيًا، وها هو أمام مصير محتوم يُخرجه ليس فقط من البيت الأبيض بل من الحياة السياسية التي كان يُخطط لاستكمالها تمهيدًا للترشح مجددًا للانتخابات الرئاسية في العام 2024. ويواجه ترامب بعد الخطأ الشنيع لموقعة “الكابيتول” لائحة من الاتهامات. بالنسبة إلى القائم بأعمال المدعي العام الأميركي في العاصمة واشنطن مايكل شيروين لا “مفر من المحاسبة” ويقول إنه “ستكون هناك عدة لوائح اتهام واعتقالات حول ارتكاب “جريمة قتل” مرتبطة بتمرد ترامب في 6 كانون الأول”.
“المحاسبة” بند واحد يحتكر الاهتمام في واشنطن الآن، حول الثمن الذي ينبغي أن يدفعه دونالد ترامب بعد خطيئة توجيه أنصاره لاقتحام مبنى الكونغرس بعد ظهر الأربعاء الماضي. وأكثر من سيناريو مطروح يتوافق عليه الديموقراطيون وجزء من الجمهوريين. في أجواء مشابهة لتفاهم قسري جرى في السبعينات بين الخصمين اللدودين عشية حث الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة عام 1974 برغم اختلاف الظروف.
بيلوسي أدّت مهمتها في ضرب ترامب وبنس بضربة واحدة، فالمرأة العنيدة التي تكره ترامب تُدرك تمامًا أنَّ العزل بهذه الطريقة قد يقود إلى اضطرابات تزيد الوضع سوءًا أمام افتتاح ولاية الرئيس المنتخب جو بايدن، وتُعمق خسائر النظام المالية والاقتصادية مما يجعل من الصعب تعافي البلاد في وقت سريع. ومصالح “الدولة العميقة” تنزع نحو تأديب ترامب دون إثارة الغضب في شارعه. وفي حين وافق مجلس النواب على إقالة ترامب في جلسته الأولى بأغلبية عيّنت بيلوسي فريق الادعاء في محاكمة ترامب بالكونغرس ويضم 9 نواب بقيادة النائب جيمي راسكين.
وهذا كان متوقعًا، بالنسبة إلى عدد كبير من المشرّعين كما بيلوسي “قائدة جهود العزل” فهي بحسب الكاتب السياسي مالكون نانس، “كانت تعلم أن هذا موقف بنس لكنها أرادت الاشارة إلى أنها استنفدت الفرص قبل المباشرة بعزل ترامب مرة ثانية”.
الخيار الثاني أمام مجلس النواب الأميركي هو الاستناد إلى المادة الثانية من الدستور الخاصة بنصوص عزل الرئيس وتتضمن عدة مراحل تبدأ بتوجيه اتهامات ومن ثم تفعيل لجان للتحقيق لتثبيت التهم وبعد إقرارها في مجلس النواب تُرفع إلى مجلس الشيوخ لإقرار العزل. ومسار هذا الإجراء طويل.
عزل الرئيس المهزوم في الانتخابات، لاحت تباشيره في الدوائر السياسية المحيطة به، فالمؤسسة السياسية الأميركية تصدّعت برمتها من “غزوة” الكونغرس، التيارات السياسية الليبرالية والمحافظة والمؤسسات الاقتصادية والإعلامية والأمنية والتشريعية، جميعها عانت الاهتزاز وتلاقت على وجوب وضع حد لجنون الرئيس ولخطابه المليء بالكراهية الذي يُقوّض المؤسسات الأميركية.
التعديل الـ25 الذي يتيح لنائب الرئيس وأعضاء إدارته إزاحته من السلطة لم يُقلق ترامب، الذي كان يتحدث عند قطاع من الجدار الحدودي مع المكسيك، رمز سياسة الهجرة الصارمة التي انتهجها، قائلًا إن التعديل الـ25 “لا يمثل أدنى خطر” بالنسبة إليه. ودعا إلى “السلام والهدوء”، بعدما نفى مسؤوليته عن اقتحام مناصرين له مقر الكونغرس، وقال إن المحاكمة لعزله “تعرض الولايات المتحدة لخطر كبير”. ورأى ترامب خلال زيارته مدينة ألامو في ولاية تكساس “حان الوقت لكي تتعافى أمتنا”. وحذّر من أن هذا النص الدستوري “سيعود ليطارد” الرئيس المنتخب جو بايدن وإدارته، وأضاف “وكما يُقال: كن حذرًا مما تتمناه”.
عمليًا، تجلّى عزل ترامب بعدما هجر عدد كبير من الجمهوريين معسكره خلال التصويت على نتائج الانتخابات حيث لم يقف مع الرئيس سوى 6 جمهوريين من أعضاء مجلس الشيوخ. كما جرى سحب الاعتراضات على التصديق. بعد ذلك كرّت سبحة استقالات مسؤولين من الدرجة الأولى والمتوسطة في الإدارة، بينهم وزيرين مقربين من الرئيس، وزيرة التربية ووزيرة المواصلات، إضافة إلى 10 مسؤولين في البيت الأبيض، وبعض الوزارات. حتى الإعلام الموالي لمعسكر ترامب مثل “فوكس نيوز” و”وول ستريت جورنال” التي يملكها صديق ترامب روبرت مردوخ، تخلّوا عن دعم الرئيس بعد “السلوك المشين” في الكابيتول.
وفي العالم الافتراضي تمَّ عزل الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة على مواقع التواصل الاجتماعي، سلاحه الأمضى في الحكم والدبلوماسية، كما هجره عاملون داخل إدارته بعد الاستقالات الكثيرة التي تلت اقتحام الكونغرس، وتواري الحزب الجمهوري عن جنباته ليس كل شيء، في ظل مساعٍ لعزل الرئيس من منصبه دستوريًا. التصديق على هذه المساع عبّر عنها زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل الذي صرّح قائلًا “إن الرئيس ترامب ارتكب أخطاء تستوجب عزله؛ وهذا يُسهل عملية إبعاده وطرده من الحزب”.
تصاعد موجة النفور من الرئيس المهزوم وسلوكه غير المتّزن، قائمة على فكرة تردي المؤسسات الدستورية وانعكاس ذلك على حضور أميركا في العالم وتداعياته المالية والاقتصادية.
اضمحلال المؤسسات السياسية الحديثة، ومفهوم الدولة وسيادة القانون والديموقراطية الحقيقية رصدها عالم السياسة الأميركي الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما في كتابه “الهوية” Identity، عدَّ فيه ترامب من أبرز وجوه هذا الاضمحلال ومما جاء في الكتاب “كنت أرى أنّ جماعات المصالح القوية تقبض على النظام السياسي وتمنعه من التطوّر. وكان ترامب حتى قبل انتخابه من نتائج هذا الاضمحلال، ومن المشاركين فيه”.
نهاية الرجل المريض ليست ومفاجئة للمتمعنين في عالم السياسة. بل أن كُثر قرأوا في العقل السياسي للرجل الذي لا يُدرك أصول السياسة ولا يعترف بوجودها كما صرّح مرارًا. نجح رجل الأعمال في انبعاث جديد لليمين الرجعي، واستنهاض جمهور المتدينين وظهر الاهتمام بالشأن السياسي لدى الجماعات الانجيلية لا سيّما تلك الفئة من المهمّشين والفقراء و”الحرافيش” الذين لا يردعهم شيء عن إثارة الفوضى، ما يترك الساحة الأميركية مفتوحة على كافة الاحتمالات.
رانيا برو