منوعات

الميادين بين الخطاب الأمميّ ولسان الأقليات

أطلّ “الربيع” على الوطن العربيّ بثوراته، في مرحلة مخاض الأنظمةِ التقليديّةِ التي سعت إلى تجديدِ شبابَها وتوريث مقاليدَ سلطاتها وأسباب قوتها وثرواتها إلى أبناء من أصلابها.

وأراد عرّابو “الربيع” العالميّون له أن يُعيد ترتيب المنطقة وتحالفاتها، وأن يرسمَ خريطةَ المستقبل على ضوء العلاقات الدوليّة ومصالح أقطابها، بمنأى عن الشعوب الحالمة بالحريّة والرفاه.

وما بين رياح “الربيع” وإرادات الكبار اختلط طحينُ السياسة؛ صحيحُه بفاسده، فلم تُبنَ سلطاتٌ، ولا اشتمّتْ شعوبُنا رياح الحريّة، وامتلأت الأرض جثثاً وخرائب.

كان “الربيع” يحمل على بساط ريحِهِ عساكرَ ومثقفين وإعلاميين، يُقاتلُ كلٌّ بسلاحٍ، وأشدّها أثراً الكلمة!

وكانت “الجزيرة” لسان “الربيع” الذي نعى “خريف” العرب وأنظمتهم، وزخرف للناس “الحلمَ”؛ وفي “فسطاط” مناوئ استوى أندادٌ وخصومٌ، بل خرج من داخل فريق “الجزيرة” أعدادٌ من الإعلاميين المشارقة، في مقدّمتهم مغاربيّ، وأطلقوا صرخةَ رفضٍ لسياسة القناة الربيعيّة، تجلّت في “الميادين”.

القناة الوليدة كانت هدفاً لاتهامات أنظمةٍ “محافظة” وامتداداتها الإعلامية بأنّها لسان “حلف الأقليّات” بمنظور السياسة التقليديّة الهُوياتيّة، وقالت هي عن نفسها إنها قناة حداثة، تنقلُ “الواقع كما هو”… ودار سجالٌ!

سجّل المنتقدون على القناة نقطتين في برنامجين اتّصفا بميزة دينيّة، وبدا للبعض أنّهما خرجا عن خطّ القناة التحريريّ. فالبرنامجان يُعالجان مواضيع إسلامية ومسيحيّة، ويصبّان في مجرى القلق الهُويّاتي…

لكن الميادين تصرّ على أنّها ذات خطابٍ أمميّ، ينطلق من عروبته الحضاريّة الغنيّة بمجتمعاتها المتمازجة تاريخياً، ويمتدّ إلى كلّ الأرض حيث المناضلون والكادحون والمضطهدون…وفق ما جاء به الإعلان التأسيسي الذي تلاه رئيس مجلس إدارتها غسان بن جدو في العاصمة اللبنانية بيروت.

وانطرح سؤالٌ بشأن خطاب “الميادين” ومستوياته وأبعاده، ورغبنا في مقاربته، فكان لقاءٌ مع مديرة البرامج في القناة نيكول كاماتو، التي أجابت “أحوال” إلى أسئلته، وجزمت بوحدة الخطاب منذ التأسيس ولغاية السّاعة.

كاماتو: خطاب الميادين واحد

من دون تردّد، تشدّد كاماتو على أن “الملحوظة المشار إليها (الخطاب الهُوياتي) غير دقيقة، وليس هناك تشظٍّ لخطاب الميادين على أساسٍ هُويّاتي بتاتاً. فالميادين تعكس التنوّع الموجود في مجتمعاتنا ودولنا العربيّة والإسلاميّة. والسياسات العامة المُعلنة للميادين منذ انطلاقتها تركّز على أهميّة الحوار والتسامح مع “الآخر”.

وتتحدّث كاماتو عن ميزة إيجابية تراها، فيما يراها الآخرون سلبية، وهي “الاهتمام الحاصل منذ الانطلاقة ببثّ برامج تخصّصيّة هدفها الإضاءة على التعدّد الثقافي في العالم العربي والإسلامي، ومدّ جسور التلاقي”.

وفي نظرة القناة إلى بُعدها التحرّريّ الأمميّ، تقول كاماتو: “بالنسبة إلى التركيز على الشخصيّات الثوريّة اللاتينيّة والعالميّة، فهو ينطلق أيضاً من السياسات العامة للميادين، والمُعلنة منذ الانطلاقة، وفيها “حق الشعوب في المقاومة ورفض التدخّل أو الهيمنة الخارجيّة”، إذ “الميادين جزءٌ من عالم الجنوب وتنحاز لقضايا شعوبه”.

وتتوقّف كاماتو، بناءً على السؤال، عند برنامج “أجراس المشرق” (إعداد وتقديم غسان الشامي) لتوضح أنّه “ليس مهجوساً بالهُويّة، وإنما يهدف إلى التأكيد على وجود وحضور وفعاليّة مكوّن أساسيّ في العالم العربي والإسلامي، يجري أحياناً تهميشه”.

ثم تؤكّد أنّ خطاب القناة “هو خطاب الوحدة العربيّة، والاحتفال بالتنوّع الموجود في مجتمعاتنا والتباهي بالغنى الذي يُضيفه هذا التنوع”. وتضيف: “خطابنا توحيديّ، يركّز على الأساسيّات، ويُركز على ضرورة مقاومة الاستكبار وعدم الانبطاح أمام المخططات الاستعمارية الجديدة، وعلى دعم مقاومة إسرائيل المحتلة ومواجهة كلّ أشكال التطبيع معها، ومن ضمنها الجبهة الثقافية”.

أبي صعب: تنوّعٌ ضمن ديناميّة واحدة

وفي نظرةٍ أخرى، يتوافق بيار أبي صعب (نائب رئيس التحرير في جريدة الأخبار) مع السيدة كاماتو في تخطّي خطاب الميادين المستوى الهُوياتي، فيقول: “بالنسبة إلى مستويات الخطاب الثلاثة التي يُمكن تلمّسها – بنظر البعض – لدى الميادين، وهي البُعد اليساري والبُعد الإسلامي والبُعد المسيحي…تُعتَبرُ في قراءةٍ أخرى أتبنّاها مكوّنات حقيقيّة، تدخل في صلب أداء الميادين وبرمجتها، حيث هاجس التنوّع والتوازن، ضمن دينامية واحدة”.

ويعتبر أبي صعب “الميادين رأس حربة أو صوت الإعلام الممانع في العالم العربي، المتميّز بثوابته السياسية والأخلاقية الوروحية، وحولها تتمحور البرمجة والخط السياسيّ والخط الإعلاميّ…”.

فالميادين – وفق قول أبي صعب – “محطةٌ تريد أن تكون عربية جامعة في زمن الانقسام والتفتت والحرب الأهلية والفتن والمذهبيّات والانقسامات.. وتريد لنا – نحن العرب – أن نكون شعوباً متجاورة متشابكة متواشجة ضمن حضارة عربية إسلامية، بمعنى التنوع والانفتاح على العالم والاختلاف”.

ويضيف: “حين نتحدّث عن التنوع العربي، فبالنسبة لي تتمازج العناصر المطروحة في السؤال، ولا تبقى واحدة فوق أخرى، لضرورات البحث… ونذهب قليلاً باتجاه الخيار اليساري، الخيار النقدي، رفض الاستعمار، رفض الظلم، رفض الاستغلال، المساواة بين المواطنين العرب أيّاً كان دينهم…ثم نذهب باتجاه التنوّع الإسلامي – المسيحي”.

ويرى أبي صعب أنّه “في أحيان كثيرة، ظُلمت الميادين – حين اتُّهمت بالتحريض – من قبل أنظمة إيديولوجية تتولّى التحريض هي نفسها، في الوقت الذي تفتح الميادين هامشاً واسعاً للرأي الآخر المناوئ لخط الممانعة”.

 

ويُرحب أبي صعب بالإطلالة الإسلامية للميادين “لا بصفة الإسلام عقيدة تكفيريّة تخوينيّة ظلاميّة كما لدى محور آخر (بالنسبة لي يحاول استعمال وتأويل الدين دفاعاً عن أنظمة تابعة مستبدة، وعن رؤية ظلامية لحضارتنا وديننا)، بل كونه صوت الحق، وهُوية حضاريّة تمثّل مواطنين عرباً، ليسوا بالضرورة مولودين في هذا الدين، وأتحدّث عن نفسي كمثال”.

كذلك ينتصر أبي صعب لـ”…مقاربة الميادين للدين المسيحيّ وللتراث المسيحيّ بصفته مكوّناً جذريّاً أساسيّاً من هذه الحضارة العربية الكبرى السمحاء”.

ويختم أبي صعب بتحديد هدف القناة، والخطّ الذي تلتزمه، وهو القدس، ويقول: “برأيي هي محطة، ينبض قلبها، وتوقيتها هو توقيت القدس، وبالتالي هي تقول للمشاهدين العرب مشرقاً ومغرباً، وفي المهاجر وفي العالم كله، ولأصدقائنا في أميركا اللاتينية، إنّ البوصلة هي فلسطين”.

باشا: الميادين أمميّة تتجاوز هموم الأقليّات

من جهته، يذهب عبيدو باشا (فنان لبناني، وناقد، وكاتب، وممثل، ومخرج) في لقائه “أحوال” إلى الحسم بأن “قناة الميادين لديها خطابٌ واحدٌ لا خطابات متعدّدة أو مختلفة”، ويعتبر أن “بثّ برنامج إسلامي مهتمّ بالقضايا الإسلامية بشكل مباشر، أو بثّ برنامج مهتمّ بالقضايا المسيحية، هو ممّا يُسجّل للقناة لا عليها، لأنّ أقنية أخرى تهتمّ بالخطاب الإسلامي الخالص، وأخرى تهتمّ بالخطاب المسيحي الخالص كذلك”.

ولا تأخذ الباشا شكوك في أمميّة الميادين بل يقول: “المحطّة تهتمّ بحركات التحرّر في العالم، من بوليفيا إلى فنزويلا إلى آخر محلّ يمكن أن يفكّر فيه المرء، وبالتالي هذه محطة لا يمكن أن تقف أمام قضايا تخنقها وتشلّها … وإذا كان القصد أن برنامج “أجراس المشرق” يهتمّ بالقضايا المسيحية ، فلا ألتزم هذا الرأي أبداً، لأنني أنا شخصيّاً من الضيوف الذين تكلّموا في البرنامج، ولم أتحدّث عن قضايا مسيحيّة، ولا طرحنا ذلك. حكيت عن بيروت والبيارتة وعن الذاكرة، ابتداءً من القرن الثاني قبل الميلاد…”.

ويرفض الباشا ربط الميادين بهموم أقلويّة أو مذهبية، فهي بنظره “أمميّة، ليس لها علاقة أبداً بالدفاع عن الأقليّات”، متسائلاً عن كيفية بناء تحالف الأقليات، “وهل هناك أقليّات في العالم العربي أمام كل هذه المفاهيم المطروحة بين البشر والضرورات التي تحتّم قيام وحدات، ليس فقط في العالم العربي بل في العالم كما هي حال أوروبا”.

 

   سواء أكانت الميادين لسان الأقليّات وخطاباتهم أم كانت الأمميّة التي شدّد عليها المثقفون، ستبقى قناةً حاضرة في المشهد العربي، وستبقى صورة من الصور التي تقدّمها الأمة العربية والإسلامية بل العالم بتدافعِ مجتمعاتِه وتعارفِها.

 طارق قبلان

 

 

 

 

 

 

طارق قبلان

مجازٌ في الصحافة واللغة العربيّة. كاتب في السياسة والثقافة، وباحث في اللهجات والجماعات الإسلامية والحوار الديني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى