الدولة تتنصّل من مسؤولياتها تجاه جرحى انفجار 4 آب… شهادات جرحى انفجارات سابقة تنذر بـ”مأساة”
تغطية الاستشفاء "مسخرة" و"البهدلة" بإنتظارهم
أكبر فضيحة وأفدح فاجعة في لبنان تنسى بعد أيام وفي أحسن الأحوال بعد أشهر، ويصبح ضحاياها متروكين لقدرهم ووجعهم ومعاناتهم. هذه هي حال جرحى الإنفجارات التي عشناها في السنوات الماضية، إذ بعد مسارعة أركان الدولة من رأس الهرم أي رئيس الجمهورية الى الوزراء المعنيين في مقدمهم وزارء الصحة الى إعلان التكفّل بكافة تكاليف إستشفاء الجرحى على حساب الوزارة عقب كل انفجار، يتبيّن أن الأمر ليس سوى مبادرة آنية ومكبّلة بالبيروقرطية وبمحدودية القوانين التي تخضع لها وزارة الصحة.
لم تقارب الدولة اللبنانية يوماً قضية جرحى الإنفجارات بجدّية ومسؤولية وإحترافية. فلا إهتمام مستداماً بهم بل بحث بُعَيد كل مأساة عن إمتصاص النقمة الإنسانية والغضب الشعبي والإكتفاء بالتصاريح وإلتقاط الصور وعلاج مجتزء ومحدود زمنياً. فتترك الدولة مواطينيها – الذين دفعوا فاتورة فشلها في توفير الامن لهم – عند أولى مراحل جلجلة إستشفائهم، فيحملون وحيدين صليب جراحهم وإعاقاتهم التي غرزتها الإنفجارات بأجسادهم والتكاليف المادية المرهقة.
تخطى عدد جرحى الإنفجار المزلزل في مرفأ بيروت في 4 آب 2020 عتبة الـ6000 مصاب، ومأساة إستشفائهم بدأت منذ الايام الاولى حيث في الأساس وزارة الصحة – وإن غطة 100% لمَن لا جهة ضامنة لهم أو 10% فرق تغطية المضمونين – لا يمكنها تغطية ما قد يحتاجونه من مستلزمات طبية ومغروسات غير مدرجة على لوائحها ولا رقم لها code كي تسجل كلفته، كـ”براغي” أو “أطراف إصطناعية” أو عمليات تجميل للمشوهين أو عدد جلسات علاج فيزيائي أو انواع صور محدد عددها مسبقاً.
“أحوال” استمع الى معاناة بعض جرحى إنفجار 4 آب مع الإستشفاء، وكذلك الى عدد من جرحى الإنفجارات السابقة التي مضى عليها سنوات عدة والذين تبشّر مسيرة إستشفائهم بـ”مأساة” تنتظر جرحى 4 آب وتزيد من معاناتهم.
9 سنوات على معاناة جنيفر والوزراء “يكتفون بالصورة”
كانت جنيفر شديد في التاسعة من عمرها حين أصيبت وأفراد عائلتها في الإنفجار الذي إستهدف اللواء الشهيد وسام الحسن في ذاك التاسع عشر من تشرين الاول 2012 في الاشرفية.
تقول والدة شديد: “دخلت جنيفر في غيبوبة ومنذ أن خرجت للمرة الاولى بعد إصابتها من المستشفى وكل نفقات العمليات الجراحية اللاحقة على حسابنا. قرابة 8 عمليات خضعت لها وأخطرها عملية في الرأس الذي بقي لثلاث سنوات مفتوحاً بانتظار نمو الجمجمة وزرع عضم الى جانب عمليات إخراج الزجاج. لم ندخل بعد في مرحلة عمليات التجميل إذ كنا بانتظار الانتهاء من خروج الزجاج وبلوغها سن الثمانية عشرة”.
تتابع الوالدة: “طيلة التسع سنوات الماضية كنت كلما أتوجّه الى وزارة الصحة يقولون لي نحن لا نتهرب من التغطية ولكن بانتظار تأمين السقف المالي وثمة أمور لا يمكن تغطيتها قانونياً. للأسف كان وزراء الصحة يتصورون مع جنيفير للداعية الانسانية ولكن دون أي مساعدة. كل مطلبي كان تغطية تكاليف هذه العمليات لأن تكلفتها تفوق قدرتنا. وصينا على corset من الخارج على نفقتنا لبسته جنيفر لسنوات، فجراحها لم تقطب. ما زال ينتظرها عمليات لإخراج الزجاج وعمليات تجميل وشد عصب الوجه حيث العين ما زالت ترتخي.
أضافت الوالدة: “الوزير علي حسن خليل الذي كان وزير صحة يوم الانفجار وعد أمام وسائل الاعلام بأن الوزارة ستتكفّل بكامل علاج جنيفر وحتى بعمليات التجميل. ومن بعده زرانا الوزير ابو فاعور الذي وعدنا بتغطية تكاليف العلاج، ولكن من دون جدوى. منذ تسع سنوات لم تغط جنيفر إلا مرة واحدة خلال تولي غسان حاصباني وزارة الصحة، أما باقي العمليات الجراحية والعلاج الفيزيائي والمتابعة الصحية فعلى نفقتنا والفواتير التي بحوزتي خير دليل. لا ميول سياسية لدينا وربما هذا لم يساعدنا في الحصول على تغطية لإستشفاء جنيفر. كما أن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وشركات التأمين لا تعترف بالإنفجارات”.
تختم الوالدة: “الدولة مجبورة بمواطنيها الذي دفعوا ثمن فشلها الأمني. نحن عشنا جلجلتنا الإستشفائية. اليوم لا أحد يعمل في المنزل إلا زوجي وبنصف راتب ولا أعتقد أن بإمكاننا إكمال مشوار العلاج مع جنيفر. نحن تخطينا مرحلة الخطر والله بيعينا ولكن المطلوب حل لمن بدأت جلجلتهم في 4 آب”.
أما جنيفر التي تتحاشى الحديث عن الإنفجار تكتفي بالقول لـ”أحوال”: “مرات عدة كنت أفكر بتأجيل عملياتي رغم وجعي، لأنني كنت أشاهد معاناة أهلي لتأمين التكاليف المادية وأقلق عليهم. أفكر بالهجرة لأن لا احد يتطلع بأحد. بالطبع أحب لبنان ولكن قراري بالرحيل بسبب إهمال المسؤولين عني كمواطنة. فأقل الأيمان أن يساعدوني بعلاجي من دون منّة لأني أدفع ثمن ذنب لم أرتكبه”.
خوري: فور إنفجار 4 آب فكرت بما ينتظر الجرحى من “بهدلة”
آلان خوري كان يبلغ 18 عاماً حين أصيب في انفجار عين علق المتنية عشية الذكرى الثانية لإغتيال الرئيس رفيق الحريري يوم الثلثاء 13/2/2007 حيث إستهدفت عبوتان ناسفتان حافلتين للركاب. فتعرّض لكسور في اليد والرجل وحريق كل الوجه والأرجل وإصابات في الأذن.
خوري الذي تعافى اليوم يعود بالذاكرة الى مسيرة إستشفائه ويقول لـ”أحوال”: “أمضيت 9 اشهر بعد الإنفجار في المستشفى بشكل متقطع. بعد خروجي للمرة الاولى من مستشفى الجعيتاوي، رفضت الإدارة إعادة إستقبالي مجدداً لأن الوزارة لم تسدّد لها كلفة عمليات التجميل – وكأنني أجمّل أنفي – رغم أنها تعهدت بعد الإنفجار باستشفاء الجرحى على نفقتها. فإضطريت للدخول على نفقتي، لأنه لم يكن بإمكاني تغيير المستشفى حيث كان هناك فريق طبي متابعاً لملفي. كما أن الضمان رفض إستقبالي بإعتباري مصاب حرب. خضعت لـ 6 عمليات الى جانب العلاج الطويل والمكلف من الحروق وجلسات العلاج الفيزيائي. يومها قرفنا فلم نعد نسأل الوزارة عن أي مساعدة، ما رتّب عليا وعائلتي إرهاقاً مادياً الى جانب إرهاقي الجسدي وأوجاعي”.
ويختم خوري: “حين شاهدت جرحى إنفجار 4 آب على شاشات التلفزة، رحت أفكر بماذا ينتظرهم ليس على صعيد الأوجاع فحسب بل البهدلة. ربما أوضاع بعض الجرحى أسوء من وضعي وقد لا يستطيعون الحصول على علاجاتهم المطلوبة”.
عبدو: تغطية الدولة للإستشفاء “مسخرة”
ميشال حنا عبدو، إبن الـ58 عاماً، موظف في إهراءات القمح. صحيح أنه نجا من الموت، لكنه خسر عينه كلياً ما إضطره الى إقتلاعها وتعرّض لإصابات بكوعيه وركبته، كسر في الأنف، تحطم الأسنان وهو يعاني من دوخة لم تعرف أسبابها بعد.
إبن شقيقه الذي يتابع ملفه يقول لـ”أحوال”: “عمي لديه ضمان، وفور وقوع الإنفجار أوعز وزير الصحة الى المستشفيات بإستقبال الجرحى على نفقة الوزارة. إلا أنه منذ العملية الاولى طالبتنا المستشفى بفرق، توجهنا الى وزارة الصحة التي أبلغتنا انه ليس بمقدورها تغطية المستلزمات والمغروسات الطبية التي إستعملت وفق القوانين المعمول بها. مسخرة حقاً. لماذا على سبيل المثال لا يطلب وزير الصحة من الهيئة العليا للاغاثة تغطية المصاريف التي لا ابواب في الوزارة لتسديدها؟ حين توجد النية يمكن الوصول الى حلول”.
يتابع عبدو: “استطاعت إداراة الإهراءات التواصل مع الصليب الاحمر الدولي الذي سدّد المبلغ في أول عملية. العملية الجراحية الثانية خضع لها منذ أيام وتكرر السيناريو. وعِدنا بتغطية الوزارة الفرق ولكنها لم تقم بذلك، فإستعنا مجدداً بالصليب الأحمر الدولي. ولكن في السنوات المقبلة من يضمن استمراره بتغطية الفرق. بما يتعلّق بالأسنان، قالوا بعد الإنفجار إن نقابة أصباء الاسنان ستغطي علاج المصابين، حتى الآن لم نبلغ هذه المرحلة وعسى أن لا تكون مثل وعود الدولة بالعلاج الكامل لجرحى الانفجار”.
حقوق طبيعية وحلول عملية
القانون رقم 194 تاريخ 16/10/2020 الذي أقره مجلس النواب ونشر في الجريدة الرسمية الخميس 22/10/2020 ويرمي الى حماية المناطق المتضررة بنتيجة الانفجار في مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها، شمل في نطاق تطبيقه “الاشخاص الذين تضرّروا جراء الانفجار”. وقد ورد في المادة الاولى من القانون أنه “يقصد، بمفهوم هذا القانون، بالأشخاص المتضررين، كل شخص طبيعي أصيب بضرر جسماني أياً تكن نتائجه”. كما أن المادة 8 وتحت عنوان “تقديمات صحية” تتحدث عن أن “ذوي الأجراء اللبنانيين ومن هم على عاتقهم وقد قضوا في الإنفجار الذين يستفيدون من تقديمات الضمان الاجتماعي خاضعين للتقديمات الصحية. أما الذين لا يتمتعون بأي جهة ضامنة فلهم حق الأفضلية من الإستفادة من التقديمات الصحية لوزارة الصحة العامة على أساس تغطية شاملة”. لكنّ القانون الذي ركّز على الحجر أكثر من البشر، لم يتناول سبل إستشفاء الجرحى.
لذا ثمة حلول فورية واخرى في القريب العاجل يمكن إعتمادها لتأمين حقوق هؤلاء الجرحى بالاستشفاء. فتعمد وزارة الصحة فوراً الى تسديد كل تكاليف الاستشفاء غير المدرجة لديها كالتجميل مباشرة للمستشفيات ثم تعمل على تحصيلها الفواتير عبر رفعها للهيئة العليا للاغاثة كي تتكفل بسدادها.
بالتزامن، فيجب تأسيس ملفات صحية لكل الجرحى وخلق مشروع -كالمشروع المعني بمصابي الالغام – يصدر بطاقات لكل جرحى الانفجارات ويعمد الى تغطية استشفائهم 100% عن كل عمل طبي مرتبط بإصابة الانفجار والى سداد ما لا تعترف به وزارة الصحة من موازنة خاصة ترصد له.
أقل الإيمان أن توفر الدولة الإستشفاء الكامل لمواطنينها الذين كانوا ضحايا فشلها في توفير الأمن لهم من دون إستجداء أو أي منّة من أحد. فهؤلاء الجرحى ليسوا مضطرين للخضوع لمزاجية هذا الوزير أو ذاك لتوقيع كتاب يغطي الاستشفاء 100%، وليس من واجبهم البحث عن حلول ومخارج قانونية وإدارية لتسديد ما لا تعترف به الوزارة.
جورج العاقوري