ثورة 17 تشرين.. إنجازاتٌ “معنوية” في بلد القرارات الخارجية!
بضعة دولارات فرضها وزير الاتصالات آنذاك، محمد شقير، على تطبيق “واتساب” كانت كفيلة بقلب معادلة بلد بأكمله. فبين ليلة وضحاها من عام 2019، امتلأت الساحات اللبنانية بالمواطنين من كافة المناطق والمذاهب والانتماءات، نزلوا إلى الشارع رفضًا لمنظومة لا تكفّ، منذ عشرات السنين، عن استغلالهم وسرقتهم ونهبهم، دون حسيب أو رقيب.
في 17 تشرين 2019، توحّدت الشعارات واختُصرت بـ”كلن يعني كلن”. شعارٌ ردّده اللبنانيون الذين خلعوا ثوب الطائفية والمذهبية والأحزاب، ولبسوا ثوبًا واحدًا موحّدًا، ثوبًا زيّنته ألوان العلم اللبناني فقط لا غير، فاختفت على إثرها سائر الألوان الأخرى، التي لطالما كانت السبب في إشعال خلافات بين أبناء البلد والبيت الواحد.
ثورة 17 تشرين، مهما تعدّدت تسمياتها، بين ثورة وانتفاضة وحراك وغير ذلك، لا يمكن لأحد أن ينكر أنها استطاعت أن تعطي أملًا بالتغيير، أقله في مراحلها الأولى. فإلى جانب إجبار الوزير شقير على العودة عن قراره وإلغاء الضريبة على “تطبيق مجاني”، تمكّنت أيضًا أن تُسقط حكومة سعد الحريري، الذي خضع لمطالب الشعب وأعلن استقالته بعد أيام قليلة من انطلاق الثورة، كما أنها زرعت الذعر في قلوب السياسيين والمسؤولين، ولو لم يفصحوا عن ذلك “علنًا”، إلا أن الأمر ظهر جليًا في تنقلاتهم وتحركاتهم وحتى تصريحاتهم، حيث باتوا يحسبون كل خطوة قبل القيام بها، خوفًا من ردّة فعل أشخاص يرفضون وجودهم، أشخاص سئموا من الظلم الذي يجابهونه في بلدهم، ومن كافة أشكال الفساد والمحسوبيات، ومن الوقوف على أبواب الزعماء لشحذ وظيفة من هنا ودواء من هناك، سئموا من كل شيء ووضعوا نصب أعينهم هدفًا واحدًا، وهو التخلّص من طبقة سياسية فاسدة، واستبدالها بأشخاص كُفؤ، بعيدًا عن الانتماءات الحزبية أو الطائفية، ليبنوا بلدًا يضمن مصالح وحقوق شعبه، ويؤمّن له العيش الكريم.
ولكن، بعد سنة من انطلاقة ثورة 17 تشرين، يعيش لبنان أسوأ مراحله، إذ يترنّح بين انهيار اقتصادي وفراغ حكومي، بين غلاء أسعار وبطالة ونسبة فقر مرتفعة. كثرت المآسي والمصائب، وازدادت نسب الانتحار وأعداد الجرائم، بين القتل والسرقة وغيرها، وبات البعض يتحسّر على فترة ما قبل 17 تشرين 2019، رغم مساوئها، باعتبار أن تلك الفترة كانت أرحم من الأيام الحالية.
وفي ظل كل هذه الأحداث والتطورات السلبية، أسئلة عديدة تُطرح، لا سيما ممّن كانوا أبرز وأول الداعمين للثورة ولمطالبها ولشعاراتها. أين الثورة اليوم من الفراغ الحكومي الحاصل، والمحاصصات السياسية والحسابات الشخصية؟ أين هي من إمكانية عودة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، وهو الذي سبق أن أُقيل بفعل ضغط الشارع؟ أين الثورة من ارتفاع سعر صرف الدولار؟ من فقدان الأدوية من الصيدليات؟ من غلاء الأسعار؟ أين هي من التهديدات اليومية برفع الدعم عن السلع الغذائية والأدوية والمحروقات؟ أين هي من البطالة الحاصلة في البلد؟ ألم تكن الثورة “الحق في وجه الباطل”، ألم تَعِد اللبنانيين بعيش كريم وببلدٍ أفضل؟ أين هي وأين وعودها، وماذا حققت من إنجازات؟
الأستاذة في القانون الدولي وحقوق الإنسان، د. حليمة قعقور، أكدت في حديث لـ”أحوال ميديا” أن ثورة 17 تشرين حقّقت العديد من الانجازات واستطاعت إحداث فرق كبير في المشهد السياسي اللبناني، إذ أن أول تلك الإنجازات تمثلت بتحرّر الناس من الطائفية التي كانت تتحكم بهم، فلم يعد ينتابهم أي شعور بالخوف من المواجهة، بل نزلوا إلى الشارع وصرخوا في وجه الزعماء والسياسيين الذين لطالما كانوا يتحكّمون بهم وبقراراتهم منذ عقود، فخسرت بالتالي الأحزاب جزءا من مناصريها، الأمر الذي “يمكن أن يُبنى عليه للمستقبل”، وفق ما قالت قعقور، مشيرة إلى أن مشهد الساحات اللبنانية، من الشمال إلى الجنوب، الممتلئة بالمواطنين الأحرار الرافضين لكافة أشكال الظلم والفساد، هو بحدّ ذاته إنجاز، فالساحات حضنت اللبنانيين من مختلف المناطق والطوائف، وجمعتهم تحت شعار واحد ومشروع واضح ومطالب محددة، أبرزها استقالة الحكومة حينها، وتشكيل أخرى مستقلة من اختصاصيين.
وكون هذا الأمر لم يتحقق بعد، ترفض قعقور في حديثها لموقعنا القول إن “تحركات الثورة فشلت”، وتؤكد أن الفشل يتغلغل فقط في المنظومة الحاكمة، التي لم تتقبل حتى الساعة فكرة التجدد والتطوّر، بل لازالت متشبّثة برأيها وقراراتها التي لم توصل البلد إلا للخراب، مشيرة إلى أن هذه المنظومة لم تتعب نفسها بالالتفات إلى الشعب أو الاستماع إلى مطالبه وصوته الذي راح يصدح في سائر ساحات النضال.
وتتابع: “لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل وصلت “وقاحة” المسؤولين، إلى “تطنيش” الشعب حتى بعد وقوع انفجار الرابع من آب الكارثي، الذي دمّر العاصمة وضواحيها، وأودى بحياة المئات وجرح الآلاف، ولا يزال هناك 7 مفقودين مجهولي المصير، إلا أن الطبقة الحاكمة منهمكة بمصالحها السياسية والشخصية، تتقاتل على الحصص والحقائب، غير آبهة بمصير الناس في بلد ينهار يومًا بعد يوم”. وانطلاقًا من ذلك، تشدد قعقور لـ”أحوال” على أنه لا يجب مساءلة الثورة حول ما حققته، بل مساءلة ومحاسبة المنظومة الحاكمة حول طريقة تعاملها مع الثورة ومدى استجابتها لمطالب الثوار.
من جهة أخرى، سلطت د. قعقور الضوء على الحلقات الحوارية التثقيفية والندوات التي كانت تُقام في الساحات، والتي اعتبرتها من أهم انجازات الثورة، كونها ساهمت بشكل كبير في زيادة الوعي الجماعي لدى الأشخاص حول أهمية وأهداف الثورة، من خلال تبادل المعلومات والأفكار، خصوصًا لدى الجيل الشبابي الذي أظهر لأول مرة وبشكل واضح اهتمامه بالشأن العام وبقضايا الشعب والوطن.
هذا ولم تقف الانجازات عند هذا الحد، فقد أشادت د. قعقور بما حققته ثورة 17 تشرين على صعيد النقابات اللبنانية، أبرزها نقابة المحامين التي انتخبت المستقل ملحم خلف نقيبًا، إلى جانب نتائج انتخابات جامعة الـLAU مؤخرًا، حيث حصل المرشحون المستقلون على نسبة أصوات عالية مكّنتهم من الفوز، فتحقّقت الأهداف بوصول أشخاص مستقلين، من رحم الثورة، إلى المراكز الأساسية في المؤسسات.
أما في ما يتعلّق بالأزمة الاقتصادية الحالية التي يعاني منها لبنان، في حين تغيب الثورة عن التصدي لها ومنع استغلال السلطة للشعب من جديد، أرجعت قعقور السبب في غياب الثوار من الساحات إلى انتشار وباء كورونا، الذي أجبر عدد كبير من الناشطين الذين كانوا في الصفوف الأمامية، على الالتزام بالحجر المنزلي تفاديًا لانتشار العدوى، فحرمتهم من القيام بأي تحركات أو نشاطات جديدة.
من هنا، اشارت الأستاذة في القانون الدولي وحقوق الإنسان، في حديثها لموقعنا، إلى أن هناك فئة من الناس لم تعد مؤمنة باللجوء الى الشارع كوسيلة للضغط على السلطة، بل باتت تفضّل استبدال هذه التحركات بالتنظيمات السياسية والاجتماعات الهادفة، لتحضير المشاريع وتحديد الرؤية الواضحة والمدروسة، للوصول الى الاهداف المرجوة.
وفي ما يتعلق بعودة الحريري إلى الحكومة، اعتبرت د. قعقور أن مجرّد البحث بعودته بعد سنة من الاستقالة، يُظهر مدى لامبالاة السلطة لمطالب الشعب، قائلة: “ربما لم يستوعب المسؤولون بعد أن الأغلبية لا تريد الحريري أو غيره من وجوه المنظومة التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه اليوم”، لافتة إلى أنه في حال وصل الحريري وتم تشكيل الحكومة، فالأخيرة لن تقدّم أي جديد، لأن “حكومات السلطة ما بتعمل شي”، بحسب تعبيرها، مضيفة: “الدليل الأكبر على ذلك كانت حكومة حسان دياب التي تشكّلت واستقالت ولم تغيّر شيء في وضع البلد، إنما ذهبت الأمور إلى الأسوأ”، مشيرة إلى أن ما يحصل نتيجة ممارسات السلطة الحاكمة و”الفاشلة” في إدارة البلد، خير دليل على أن الحكومة المستقلّة المنبثقة من الثورة ستُحدث التغيير المنتظر، وفقًا للمشروع المناسب والمدروس، على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، للنهوض ببلد رُوي بدماء أشخاص آمنوا بقدرة هذه الثورة على التغيير الحقيقي والفعلي.
إذًا، تطلّ الذكرى السنوية لثورة 17 تشرين هذا العام “يتيمة”، بشوارعٍ خالية من ثوارها، وبمشهدٍ سياسي مشابه لما كان عليه منذ عام تقريبًا، من حيث الوجوه والأسماء الطاغية على الحكم، فالوضع العام يزداد سوءا، والكلمة الفصل والقرارات النهائية لاتزال في أيدي القوى الخارجية التي تتحكّم بمستقبل بلد وشعب بأكمله، بحسب أهوائها ومصالحها.
ياسمين بوذياب