في ذكرى 17 تشرين… ماذا لو كنّا دفعنا الدولارات الستّة؟
تمرّ اليوم ذكرى 17 تشرين حزينة، البلد منكوب، فوق النكبة الاقتصادية نكبة صحيّة، المستقبل مجهول، وليس ثمّة ضوء في نهاية النّفق.
عندما خرج اللبنانيون في تظاهرات مساء 17 تشرين العام الماضي، كان جلّ ما يحلمون به أن تتّسع دائرة التّظاهرات، وأن يخرج الشّعب كلّه ليقول لا لضريبة الواتساب، ومن خلفها لسلطة تفنّنت في قهره.
كان يومها لبنان خارجاً من سلسلة حرائق مميتة أظهرت عجز الدّولة، وقبلها كانت أحجار الدومينو قد بدأت تتساقط، كان اللبناني قد بدأ يعيش أزمة البنزين وأزمة الخبز وأزمة الدولار في الصرّاف الآلي وسط تطمين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أنّ “الليرة بخير”، لكنّه لم يكن يتخيّل في أسوأ كوابيسه، أنّ الذّكرى الأولى لـ17 تشرين ستمرّ وهو يتنقّل من صيدلية إلى أخرى يبحث عن حبّة بانادول، وأنّ مشهد طوابير السيّارات أمام محطّات البنزين سيصبح اعتيادياً، وأنّ البنوك التي أقفلت بعد التّظاهرة الأولى أسبوعين اعتبرها اللبناني كارثة الكوارث، ستقفل بعدها كثيراً، وعندما تفتح لن تسمح للمودعين بسحب ولو دولاراً واحداً من حساباتهم، وأنّهم على أبواب إحياء الذّكرى الأولى، سيكونون أمام تعميم جديد يقتّر عليهم حتى حساباتهم بالليرة، وأنّ كلّ ما سيستطيعون سحبه هو مليوني ليرة شهرياً، وأنّ هذين المليونين هما أكثر من مئتي دولار بقليل.
لم يكن اللبنانيون في بداية التّظاهرات، يتخيّلون أنّ العام المقبل سيأتي، وهم غارقون في المآسي، وأنّ الدولار يلامس عتبة العشرة آلاف، وأنّ حاكم مصرف لبنان الذي كان يطمئنهم دوماً إلى أنّ الليرة بخير، سيعلن ما يشبه إفلاس مصرف لبنان، وأنّ هذا الأخير سيسحب يده رويداً رويداً من دعم البضائع المستوردة، ليغرق البلد بعد أشهر قليلة تنتهي فيها دولارات الدّعم بالمجهول.
ولم يكن المتظاهرون الذين عوّلوا كثيراً على الثورة، يتخيّلون أنّ تلك الأمسيات التي قضونها وهم يرقصون على أنغام الـDJ الذي غبطنا عليه أشقاؤنا في الدّول العربيّة وهم يتابعون أخبارنا ويقولون “انظروا إلى ثورة لبنان… يا هيك ثورات يا بلا”، لم يتخيّلوا أنّ الذّكرى الأولى ستأتي والسّاحات لم يعد يحرّكها شيء، وأنّ من يتظاهر اليوم هم نسبة قليلة من الحالمين بالتّغيير قبل عام، فالأغلبية لم تعد تحلم، أو يئست من التغيير، أو انصرفت إلى لملمة ما تبقى من طاقاتها لتواجه به الانهيار العظيم.
لم يكن المصفّقون لاستقالة الحكومة التي فرضت ضريبة الواتساب يتخيّلون بأي شكلٍ من الأشكال، أنّ ذكرى 17 تشرين ستتزامن مع إعادة تسمية الحكومة نفسها التي تظاهروا لإسقاطها، أدركوا متأخّرين أنّ الحل لا يأتي عن طريق التّظاهرات وأنّ الحلول دائماً خارجية، وأنّ الأجدى اختيار رئيس ترضى عنه الدّول الخارجيّة لتتدفّق المساعدات إلى بلدٍ اعتاد العيش على التسوّل، وحين كفّ أصحاب العطاء عن مدّ يدهم مات البلد جوعاً.
لم يكن ثوّار المصارف يتخيّلون أنّ هذه الأخيرة ستعيش هدوءاً لم تنعم به يوماً، بالكاد يزورها عميل، بعد أن كان الذّهاب إلى البنك أشبه برحلة تبدأ في الصّباح الباكر “اللي رايح بإيدو واللي راجع مش بإيدو”. استسلم اللبنانيون لفكرة أنّ أموالهم أصبحت ملك البنك، يعطيهم الدولار على 3900 ليرة سعر منصّة مصرف لبنان، ويحتجز شيكاتهم الدولار بين ثلاثة إلى ستة أشهر قبل أن يصرفها لهم على سعر المنصّة، وسيستسلمون دون شك لتقنين سحب الليرة ويتدبّرون أمرهم بما يساوي المئتي دولار شهرياً.
في 17 تشرين الماضي، لم يكن اللبنانيون قد سمعوا بعد بمصطلحات مثل “دولارات طازجة” Fresh USD، ولا بمصطلح الدولار اللبناني “لولار”، ولا بسلعة مدعومة من وزارة الاقتصاد… وكانت فكرة أنّ الدّولة تدعم فواتير الكهرباء مجهولة من قسم كبير من اللبنانيين كانوا يعتقدون أنّ مصاريف كهرباء لبنان الخيالية سببها المشاريع الوهميّة فحسب. أدركوا متأخرين أنّ الدّولة تكرّمت دون أن تسألنا فدفعت جزءاً من فواتيرنا دون أن نطلب، ثم عادت لتطالبنا اليوم بالفواتير بمفعول رجعي من كيسنا الفارغ بفعل السرقات والنّهب.
لم يكن اللبنانيون يتخيّلون أنّ زمن الرفاهية سيولّي إلى الأبد، وأنّ ما كانوا يعتبرونه “تحصيل حاصل” سيصبح حلماً صعب المنال.
اليوم لسان حال بعض اللبنانيين “ماذا لو دفعنا الستّة دولارات؟” ولسان حال آخرين “ليتنا دفعنا الدولارات الستّة ويا دار ما دخلك شر”، ندرك أنّنا لو دفعنا الضّريبة “من تم ساكت”، لكانوا جلدونا بالضّرائب ووصلنا لاحقاً إلى ما وصلنا إليه، لكنّها أمنية في اللاوعي، بالعودة إلى الوراء، وتغيير تفصيل صغير، علّ قدرنا يتغيّر.
إيمان إبراهيم