عندما قيل لبعض المسؤولين اللبنانيين: “ستأتون إلينا راكعين!”
يستمر النزف الاقتصادي والمالي على وقع التخبط والاجتزاء في المقاربات الرسمية التي تبدو حتى الآن قاصرة عن محاكاة الحلول المطلوبة لأزمة تراكمت صواعقها على امتداد سنوات من الحيل والخدع التي أوهمت الناس بأنّ الأمور على ما يرام، إلى أن انفجرت الكذبة المنفوخة ووقع الانهيار الكبير بعد تشرين الأول 2019.
وبينما لا تزال خطة الإنقاذ والتعافي المفترضة في طور المخاض الصعب والأخذ والرد، حاولت تعاميم مصرف لبنان المتلاحقة أن تملأ الفراغ، لكنّ المشكلة أنّها تأتي في كلّ مرّة على حساب المودعين الذين باتوا عمليًا الحلقة الأضعف بين الدولة والمصارف والبنك المركزي، وإن اختلفت سقوف الهيركات التي يخضعون لها بين تعميم وآخر، وكأنّ أصحاب الحقوق المحتجزة أصبحوا مخيرين فقط بين السيّئ والأسوأ. والمشكلة الأخرى أن تلك التعاميم تأتي منفصلة أو معزولة عن أي خطة متكاملة للعلاج، وبالتالي لا سياق واضح تندرج فيه، بل يجري اعتمادها بالمفرق وعلى القطعة، وهي تتعامل مع نتائج الأزمة دون الأسباب التي يحتاج “تجفيفها” إلى استراتيجية شاملة من قبل الدولة، تكون قرارات البنك المركزي من ضمنها.
ولكن المفارقة ان هذه الدولة المثقلة بالخلافات والأعباء هي أشبه بسلحفاة تخوض سباقًا مع عدّاء، إذ ان عوارض الأزمة تتفاقم بوتيرة متسارعة، بينما ردّ الفعل الرسمي لم يتجاوز بعد حدود الترقيع و”التلزيق”، إلى درجة أنّه يصعب بعد مرور أكثر من 100 يوم على تشكيل الحكومة إيجاد إنجاز واضح ومكتمل في “سجلها العدلي”.
وقد أتى النزاع السياسي- القضائي الحاد الذي أدّى إلى تعطيل مجلس الوزراء ليزيد الطين بلّة، ولينسف الكثير من الآمال التي بُنيت على حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.
ولعلّ من الغرائب اللّبنانية التي يمكن ضمها إلى سيل “المآثر” السابقة تلك المعادلة العجيبة التي أطلقها ميقاتي في معرض توصيفه للوضع الهجين، حيث اعتبر أنّ “مجلس الوزراء مش ماشي انّما الحكومة ماشية”.
وقد سنحت للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن يعاين عن قرب “الغسيل الوسخ” المتدلّي من على سطوح المنازل الكثيرة للبيت السياسي اللّبناني المُطالَب ببدء تسديد فاتورة الإصلاحات قبل نيل مساعدات من صندوق النقد الدولي أو جهات دولية أخرى.
ومن مظاهر “السوريالية اللبنانية” أن السلطة تخوض مفاوضات شاقة مع صندوق النقد للحصول على مليارات قليلة من الدولارات، في حين أنّها أنفقت نحو 20 مليار دولار على الدعم العشوائي والمثقوب الذي لم يصل إلى مستحقيه، وكان يمكن استخدام جزء منه لتنفيذ مشاريع حيوية ومستدامة تتصل بعصب الاقتصاد.
وللدلالة على خفة أصحاب القرار واستخفافهم بالتحديات، تروي شخصية اقتصادية في مجلس خاص أنّ مسؤولًا في صندوق النقد الدولي كان قد التقى قبل فترة قصيرة من وقوع الانهيار الكبير في تشرين الأول 2019 بعض المسؤولين اللّبنانيين وحذرهم من المنحى الانحداري الذي يتخذه الوضعان الاقتصادي والمالي، ناصحًا إيّاهم بأن يخوضوا مع الصندوق نقاشًا صريحًا حول المخاطر الداهمة لتداركها قبل فوات الأوان، مبديًا الاستعداد للمساعدة في هذا المجال.
ووفق الشخصية، فإنّ ممثل الصندوق توجه آنذاك إلى مضيفيه الرسميين برسالة مباشرة وقاسية مفادها: اذا لم تبادروا فورًا إلى معالجات جذرية فستأتون إلينا لاحقًا راكعين طلبًا للمساعدة.
.. وللأسف، لم يطل الوقت كثيرًا قبل أن تصبح الرسالة التحذيرية والاستباقية سارية المفعول.
عماد مرمل