خفايا من كواليس اعتذار الحريري
لماذا انتهى مخاض الاشهر التسعة من تكليف الرئيس سعد الحريري الى اعتذاره وماذا جرى في “أدغال” المفاوضات قبل ان يتخذ رئيس تيار المستقبل قراره بالانكفاء؟
لعل الاضاءة على بعض خفايا الكواليس تسمح بتكوين صورة أشمل واستنتاجات أدق حول حقيقة ما جرى وكيف تدحرجت مراحل التفاوض العسير نحو المصير المحتوم.
َالنواة الأولى لأزمة تشكيل الحكومة الجديدة ظهرت حتى قبل تكليف الحريري، وتحديدا عشية استقالة الرئيس حسان دياب وغداتها.
آنذاك، عُقد في عين التينة اكثر من اجتماع في حضور الرئيس نبيه بري ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل والمعاون السياسي لرئيس المجلس النيابي علي حسن خليل. نوقش يومها سيناريو ما بعد استقالة دياب، ليتبين ان ليست هناك مقاربة مشتركة للبديل المحتمل، إذ أبلغ باسيل إلى بري انه غير متحمس لخيار الرئيس سعد الحريري ولا يقبل بان يشارك التيار في حكومة برئاسته، فرد عليه بري: وانا لا أقبل بحكومة من دونكم.
لكن باسيل عاد ولفت الى ان “الحريري سيأتينا بشروط لا نستطيع تحملها”، فعلق بري قائلا: يا أخ جبران.. اذا حسين الخليل بيقبل تصير حكومة بلاكم انا ما بقبل..
لاحقا حصل ما حصل، وسُمي الحريري باغلبية نيابية خلت من فيتامين c البرتقالي، بعدما امتنع التيار الوطني الحر عن تسميته. لكن، ومع انطلاق المفاوضات بين عون والحريري بدا ان الاثنين يميلان الى اعتماد منطق التفاهم على الرغم من ان رئيس الجمهورية كان ممتعضا من فرض تكليف الحريري عليه وعلى تياره خلال الاستشارات النيابية الملزمة.
وافق الحريري في البداية على أن يسمي عون الوزراء المسيحيين الا انه اشترط في المقابل ان تكون الحكومة من 18 وزيرا.
وعندما ألح الحريري على هذه المعادلة بعد أخذ ورد، قال له عون في احد الاجتماعات: انا أفضّل ان تضم الحكومة 24 وزيرا، إنما إذا أصبح تأليفها يتوقف على أن تكون من 18 فأنا امشي بهذه التركيبة..
خلال تلك الفترة، لاحظ القريبون من عون انه كان مرتاحا الى النقاشات مع الرئيس المكلف، الأمر الذي دفع أحد هؤلاء الى نصحه بتجنب الإفراط في التفاؤل، قائلا له: يا جنرال.. انت مصدقو لسعد؟ فرد عون: ولماذا لا أصدقه؟
لاحقاً، بدأت الأمور تتبدل في اتجاهات سلبية ولاحظ رئيس الجمهورية بأن الرئيس المكلف انتقل الى مرحلة العدائية، معتمدا قاعدة “خذ وطالب”، بحيث كان في كل اجتماع بينهما يأتي بطرح جديد او معدل، متجنبا قدر الإمكان ان يعرض أوراقا مكتوبة حتى يبقى لديه هامش واسع للمناورة.
وفي المقابل، بدأ الحريري يشعر شيئا فشيئا بان عون لا يريد له ان يشكل الحكومة، وإنه يحاول إستفزازه تارة بمطلب الثلث المعطل وطورا بالاصرار على حقائب محددة، وصولا الى تعمد الإساءة اليه في أكثر من مناسبة لاحراجه واخراجه.
هنا تعمقت أزمة الثقة بين الرجلين وصار كل منهما يرتاب في الآخر، الأمر الذي زاد التفاوض تعقيدا. ومع ذلك، أصر الحريري على الاستمرار في المحاولة، مفترضا ان الوقت حليفه وان العهد لا يستطيع أن يبقى طويلا من دون حكومة اصيلة.
وامام استعصاء الحل، دخل البطريرك الماروني بشارة الراعي على خط الوساطة، بمؤازرة الفاتيكان الذي طلب من البطريرك ان يعرف من يعطل تشكيل الحكومة ولماذا، لانه لا يمكن اقتراح الحل المناسب من دون تعريف دقيق للمشكلة، علما ان الحريري كان قد اشتكى خلال لقائه مع البابا فرانسيس من ان رئيس الجمهورية هو الذي يعرقل ولادة الحكومة.
وسعيا الى معرفة الحقيقة الضائعة، زار الراعي رئيس الجمهورية مرات عدة في قصر بعبدا، وتمنى عليه تحضير ورقة تحوي تصوره للتشكيلة الوزارية حتى يقارنها مع ورقة الحريري، وصولا الى تبيان مكامن الخلاف بالضبط تمهيدا لتسويتها.
وقد طلب الراعي من باسيل الذي كان موجودا في اللقلوق ان يحضر احد لقاءاته مع عون، “لأن بدي أعرف وين المشكلة، هذا مطلب الفاتيكان..”
وبناء على اقتراح الراعي، تم تسليمه ما أراد، لكن الحريري لم يُعلق ولم يعط البطريرك الورقة التي كان ينتظرها لإجراء المقارنة.
وتفيد المعلومات ان الحريري أبلغ إلى أحد المعنيين بالملف للحكومي انه لا يستطيع أن يضع على ورقة توزيع الحقائب الوزارية اسم حزب الله، حتى لا يستفز المجتمع الدولي، خصوصا الغرب، في حين ان الحكومة تحتاج إلى ثقة الخارج لاستقطاب المساعدات. َوخلال المراحل الاخيرة من المفاوضات، لم يقبل الحريري ب”الثقة الرمزية” التي وافق التيار على إعطائه إياها واعتبرها مسيئة له ربطا بحصة عون المكونة من ثمانية وزراء، وظل ايضا متمسكا بأن يكون صاحب الدور الاساسي في انتقاء الوزيرين المسيحيين …