مجتمع

الأزمة تعيد “السكافي” إلى الأحياء… فهل يعود المجد إلى معامل الأحذية؟

باتت العودة إلى تصليح الأحذية حاجة ماسّة عند معظم الأهالي، رغم صعوبة البحث عن “السكافي”، بعد أن انقرضت هذه المهنة خلال السنوات الطويلة الماضية، ولكنّ الأزمة الاقتصادية المستفحلة، أعادت إحيائها شيئًا فشيئًا.  فقد بدأ بعض الفقراء، من العاطلين عن العمل أو حتى بعض الموظفين، يبحثون عن المهن المستجدة، والتي من بينها مهنة “السكافي”، هناك على طريق عام بلدة  دير قانون (صور) قرّر الموظف جابر مبارك (51 سنة) استعادة مهنة والده، فيقول “أنا موظف في إحدى الدوائر الرسمية، كان طموحي عدم العمل في مهنة والدي الشاقة، والحصول على وظيفة تكفيني طيلة حياتي، لكنّ الأجر الآن لا يكفي عائلتي أكثر من عشرة أيام، لذلك باتت مهنة والدي ملجأي ومصدر رزقي الجديد”.

ويبيّن أنّ “السنوات العشرين التي مرّت على إقفال والدي باب محلّه والامتناع عن تصليح الأحذية، بعد أن أصبحت هذه المهنة من الماضي، بانقراض عدد الزبائن، بسبب غزو البضائع الأجنبية الرخيصة، لم تكن كافية لوأد هذه المهنة”.

يرى مبارك أنّ “ما يحصل اليوم، لم يكن نتخيّله في الأحلام والكوابيس المزعجة، فالبلاد عادت عشرات السنين إلى الوراء، بعد تراجع الأوضاع الاقتصادية بشكل مخيف، حتى بات إعادة فتح محلاّت لتصليح الأحذية، أمرًا ضروريًا ومفيدًا أيضًا”، لافتًا إلى أنّ “معظم الأهالي المقيمين باتوا يقصدون محلاّت السكافي النادرة”. بدل تصليح الحذاء، بحسب مبارك لا يزيد على 10 آلاف ليرة، وإن تطلّب الأمر إعادة تصنيع الحذاء باستخدام الجلود والنعال فقد يكلّف صاحب الحذاء حوالي 40 ألف ليرة.

لم تكن مهنة السكافي الوحيدة الآيلة إلى الانقراض، بل مهنة صناعة الأحذية أيضًا، اذ لا يوجد في جنوب لبنان كلّه سوى مصنعين أو ثلاثة مصانع لصناعة الأحذية، ففي بنت جبيل التي كانت مشهورة، حتى تسعينيات القرن الماضي بصناعة الأحذية، حتى فاق عدد معامل الأحذية فيها الـ 90 معملًا، لا يوجد فيها اليوم إلاّ معمل وحيد لصناعة الأحذية اللّبنانية.

لقد تحولت بنت جبيل، منذ أواخر التسعينيات، من بلدة تستقطب العمّال وتصدّر الإنتاج المحلي من الأحذية التي كانت صناعتها، مصدر الرزق الأوّل لأبنائها، إلى بلدة تصدّر المغتربين إلى بلاد الله الواسعة، لا سيّما الولايات المتحدة الأميركية، التي بدأت هجرة أهالي المدينة إليها منذ مراحل الهجرة اللّبنانية الأولى. أكثر من 200 شاب وصبية كانوا يعملون في الثمانينات في معامل بنت جبيل للأحذية، التي كانت تصدر انتاجها إلى الخليج العربي وأفريقيا، إضافة إلى تغطية حاجة لبنان المحليّة بنسبة كبيرة.

ما بقي من هذه الصناعة هو معمل واحد فقط لصاحبه غسان شرارة. في معمل شرارة داخل سوق بنت جبيل القديم، حيث يعمل وسام الحوراني منذ أكثر من 40 سنة على صناعة الأحذية الجلدية الجميلة، ويقول “كنت أعمل مع عشرات العمال في صناعة الأحذية، لكن إهمال الدولة، وفتح الأسواق أمام السلع الأجنبية، أدّى إلى توقف جميع المعامل، وبقينا هنا وحدنا، نصنع ما تيّسر حسب الطلب”، لكنّ الحوراني بدا سعيدًا بعودة الزبائن إلى المحل، فيقول “رغم الفقر الذي حلّ بالجميع، بات عشرات الزبائن يقصدوننا يوميًا منذ بدء الأزمة، ولكن ليس لشراء الأحذية، بل لتصليح القديم منها.

لقد حلّت الكارثة، وعدنا سنوات طويلة إلى الوراء، لكن مهنة السكافي عادت أيضًا، وبقوّة، ويبدو أنها ستنطلق من جديد”. ويلفت الحوراني إلى أنّ “الزبائن لا يناقشون أثناء دفع بدل تصليح الأحذية، لأنّهم يعلمون جيّدًا أنّهم وفّروا على أنفسهم عشرات الآلاف من اللّيرات، لأنّ بدل تصليح الحذاء لا يزيد على 30 ألف ليرة، أمّا ثمن الحذاء الجديد فيزيد على 300 ألف ليرة”.

على طريق عام بنت جبيل، يوجد محلّ صغير لبيع الأحذية، هو أقرب إلى دكان صغير، صاحبه يدعى أحمد بزي، الذي كان له معمل في وسط بنت جبيل، ورثه عن أبيه الذي أنشأ المعمل في أوائل السبعينات، وأكمل هو إدارته لأكثر من عشرين عامًا، لكن بزي اضطر إلى إقفال المعمل بعد اجتياح البضائع الصينية لبنان وعدم استطاعته المنافسة. “أي معمل كان ينتج على الأقل نحو 600 جوز من الأحذية أسبوعيًا، وفي الساحة القديمة لبنت جبيل كان يوجد أكثر من 30 معمل، لكن دخول البضائع الصينية أدّى إلى إقفال هذه المحال شيئًا فشيئًا” يقول أحمد بزي، الذي كان يستخدم في معمله القديم 10 عمال وينتج أكثر من 150 جوز من الأحذية يوميًا، ويعتبر أنّ “استعادة الوضع إلى ما كان عليه أمر صعب جدًا نظرًا لارتفاع أسعار اليورو، لأنّ المواد الأوّلية المستوردة لصناعة الأحذية هي من أوروبا، إضافة إلى أنّ الوضع الاقتصادي يزداد سوءًا ما يساهم في ازدياد هجرة الشباب من أبناء المدينة بحثًا عن العمل الأكثر إنتاجًا، خاصة في أميركا التي يعيش فيها أغلب أبناء المدينة القديمة”.

بعض أصحاب المعامل من أبناء بنت جبيل، يعملون في بيروت، ولهم معامل ضخمة ومنتجة، فمنها ما يشغل أكثر من 150 عامل، من بينها معامل الأحذية لكلّ من عصام سعد ووضاح الشامي وعلي جابر بزي، وإنتاج أحدها بحسب شرارة نحو 600 جوز من الأحذية يوميًا والتي تصدر بأغلبها إلى الخليج العربي.
يذكر أنّ عدد مصانع الأحذية العاملة في لبنان كان 600 مصنع في عام 1975. وكانت تشمل صناعة الأحذية جميع الأنواع الجلدية والمطاطية والرياضية، الرجالية منها والنسائية والولادية. وتعاني هذه الصناعة من إهمال الدولة للقطاع، وارتفاع أعباء أكلاف الإنتاج، والرسوم والضرائب المرتفعة، وارتفاع أسعار المحروقات، وإغراق السوق المحليّة بالسلع المستوردة.

 

 

داني الأمين

داني الأمين

صحافي وباحث. حائز على اجازة في الحقوق من الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى