التدقيق الجنائي… مفاوضات على نار هادئة
غياب ملف التدقيق الجنائي عن الضوء والتداول الإعلامي، لا يحجبه عن المداولات في الكواليس، إذ تستمر المفاوضات مع شركة “ألفاريز أند مارسال” على الرغم من انقضاء فترة ستة أشهر من صلاحية العام التي حدّدها مجلس النواب لقانون رفع السرية المصرفية تسهيلًا لعملية التدقيق الجنائي في عمل مصرف لبنان والمؤسسات التابعة له. ولو أنّ التدقيق لم يوضع على السكة بعد، فإن المفاوضات التي يتولّاها وزير المالية غازي وزني، بتفويض من الحكومة، مستمرّة على نار هادئة. لكن هذه المفاوضات ليست ميسّرة مع فرض الشركة شروطًا إضافيةً لاستئناف عملها الذي بدأته في وقت سابق وتوقف مع تمنّع مصرف لبنان عن تزويدها بالبيانات المطلوبة.
هذا التمنّع اعتبرته الشركة إخلالًا من ناحية الدولة اللبنانية ببنود العقد السابق، الموقع في آب 2020، لعدم تقديم المعلومات المطلوبة والتعاون معها، الأمر الذي قادها إلى الاعتذار عن إكمال مهامها، لذا تطالب بتسديد قيمة البند الجزائي وتريد زيادة بدل الاتعاب!
في أواخر شهر أيار الفائت، أعلنت شركة “ألفاريز” أن المستندات والمعلومات التي حصلت عليها من مصرف لبنان كافية لإحياء التدقيق الجنائي مجددًا. لكنها طلبت توقيع عقد جديد بكلفة إضافية تبلغ ٤٠٠ ألف دولار. العقد الجديد يعني تفويضًا جديدًا بالتوقيع، يفترض أن يحصل عليه وزير المالية عبر موافقة استثنائية يوقّعها رئيسا الجمهورية والحكومة. وكان من المتوقع إن سلك التدقيق الجنائي طريقه نحو التنفيذ، كما يأمل اللبنانيون، أن يكون التقرير الأولي جاهزًا، بحسب العقد، بعد ١٢ أسبوعًا، أي في نهاية شهر آب المقبل.
وفي ظل الأزمات المالية والتموينية والنفطية والكهربائية، استؤنفت المفاوضات مع الشركة دون التوصل إلى توقيع العقد الجديد، وفي اليومين الماضيين، بحسب معلومات “أحوال” خاض وزير المالية، غازي وزني، وبعدما حصل على موافقة استثنائية لتفويضه التفاوض مع شركة التدقيق على التعديلات المقترحة من قبلها، مفاوضات عسيرة لتليين موقف الشركة من شروطها الجديدة. لكن لم ينجح حتى الآن، وهو يتأنى في أخذ القرار النهائي وتحمّل مسؤولية العلاقة مع الشركة وحيدًا فيعمد إلى إطلاع رئيسي الجمهورية والحكومة على مضامين المفاوضات مع الشركة.
المفاوضات الجارية مع “ألفاريز أند مارسال” تتمحور حول طلب الشركة مبلغ 400 ألف دولار إضافيًا عن المبلغ المتفق عليه في العقد السابق، وتطالب الدولة اللبنانية بتسديد قيمة البند الجزائي الوارد في العقد السابق، بسبب التخلّف عن تزويدها بالبيانات التي طلبتها، وقدرها 150 ألف دولار.
وزير المال يميل لدفع البند الجزائي، فيما يرفض وزراء في الحكومة الأمر معتبرين أن الدولة لم تتخلّف عن التعاون وبالتالي مطلب الشركة غير محق. ويُفصح وزير المال للمعنيين أنه يرفض زيادة بدل أتعاب الشركة بدفع المبلغ الذي تطلبه ولا تحمّل مسؤولية تكبيد الدولة أعباء مالية إضافية لإنجاز الاتفاق.
شروط الشركة تمتد لآلية الدفع، فهي تطلب مبلغ 100 ألف دولار تأمين لتنفيذ العقد وعدم تراجع لبنان، وبحسب مصادر مطّلعة تشترط أن يكون الدفع نقدًا بالعملة الصعبة، بسبب مخاوفها من عدم الاستقرار اللبناني الأمني والمالي ما قد يعرقل حصولها على المبلغ المتفق عليه. والدفع النقدي في ظل الأزمة المالية والنقدية المستفحلة يحتاج إلى قرار حكومي، لا يتوفر الإجماع حوله حتى الآن. لذلك البحث جار عن صيغة ملائمة لتسديد مستحقات الشركة وفق الآلية المقررة في العقد مع وزارة المال، وقد أبدى رئيس الجمهورية، المتمسك بالتدقيق، موافقته على الدفع حتى ينطلق التدقيق بأسرع وقت ممكن.
وينقل زوار رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أنه “مصمم على المضي في معركة المباشرة بالتدقيق الجنائي ولن يتراجع عنها مهما عظمت التحديات واشتدت الصعوبات، لأنها المفتاح في فتح أبواب مغارة الفساد”.
الرئيس عون، الذي يُصر على أن يكون التدقيق “إنجاز العهد” الذي يُهديه إلى اللبنانيين، كرّر القول مؤخرًا خلال استقباله الممثل الاعلى للاتحاد الاوربي للشؤون الخارجية والسياسية والامنية جوزيب بوريل، أن الاصلاحات هي المعركة الاساسية التي ستخوضها الحكومة الجديدة بعد تذليل العقبات الداخلية والخارجية، مشددًا على أن التدقيق المالي الجنائي هو الاساس في مكافحة الفساد الذي تقف وراءه منظومة تضم مسؤولين وسياسيين واقتصاديين ورجال مال وأعمال. واعتبر الرئيس أمام الضيف الأوروبي أن التدقيق هو الخطوة الأولى المطلوبة في المبادرات الإنقاذية وبرامج المساعدات من الدول والهيئات الدولية المعنية.
العمل على إنجاز اتفاقية التدقيق الجنائي لا يخلو من الاشتباه بالمماطلة والتسويف، لكن مصادر وزارة المال ترفض الاتهامات مؤكدةّ على حرص الوزارة على أن يكون التوقيع على الاتفاقية سليمًا ومراعيًا للظروف التي يمر بها لبنان. وبخاصة أن الشركة تشترط دفع كامل قيمة العقد من جانب الدولة اللبنانية، ويبلغ 2 مليون و740 ألف دولار بدل أتعاب ومصاريف عند توقيع العقد بما فيها المئة ألف دولار. الأمر الذي لا يوافق عليه عدد كبير من الوزراء وأيضًا رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب الذي طلب إحالة الملف إلى هيئة التشريع والاستشارات، التي أبدت رأيها منذ أسبوعين، وهو باختصار “عدم جواز دفع قيمة العقد مسبقًا”.
ورأي الهيئة كما هو معلوم غير ملزم للحكومة والإدارات الرسمية، لكن المخارج تبقى قيد الدرس بين المسؤولين لإزالة التردد والإسراع بإتمام الملف.
أن يدفع لبنان مبالغ طائلة لشركة “الفاريز أند مارسال” يثير حفيظة المشككين لا سيّما أن التدقيق، في حال انتهت المفاوضات إلى الاتفاق، قد يبقى محصورًا في إدارات محددة ويستثني مكامن الهدر الرئيسية التي تحوم حولها شبهات، بظل تهرّب واضح من جهات كثيرة من عملية التدقيق الجنائي.
التدقيق الجنائي في حساب المصرف المركزي وحسابات المصارف التجارية والخزينة اللبنانية وحوالات الصرف المدفوعة من مصرف لبنان وسواها، يوصل إلى تتبّع حركة الحسابات ورصد المشبوه منها. وبحسب خبراء فإنه لتبيان الجرائم المالية، يجب أن يشمل التدقيق المشتريات وحسابات المتعهدين وسلف الخزينة والموازنة، لمعرفة قيمة المبالغ المصروفة أو المدفوعة ومقارنتها مع المشاريع أو المواد أو الخدمات المنجزة، ومطابقتها مع الحركة المشبوهة للحسابات المصرفية، وهذا الأساس الذي يقوم عليه التدقيق الجنائي.
رانيا برو