شرارات متطايرة بين بعبدا وعين التينة… أين حزب الله؟
داخل الانهيار وما بعده لا يبرح أهل السياسة التلاعب بالزمن وأوهامهم الشخصية وطموحاتهم اللوجستية لرسم موقعهم في المشهد السياسي وللانقضاض على ما ملكت أيديهم من النفوذ والسلطة تحت مسمّى تأليف الحكومة.
الانهيار بمعناه التشريحي ليس اقتصاديًا أو سياسيًا، بل هو في جوهره انهيارٌ أخلاقي وقِيَّمي، لن يلجمه إلاّ انتفاضة أخلاقية مجتمعية، هي شرطٌ لا مفرّ منه للقضاء على سلطة تقوم على النهب، واستباحة حقوق المواطن وازدرائه.
وبهذا المعنى السلطة السياسية والمالية الطاغية فقدت أخلاقها، التي تحتم عليها خلال تأديتها لوظيفتها العامة، الالتفات إلى هموم الناس والوطن ومعالجة مشاكلهم، بدل الاستدارة إلى ما يظفرون به على الصعيد الفئوي.
ومن قلب الانهيار، تتسّع ساحة التحركات الاحتجاجية في المناطق مع ارتفاع منسوب الغضب الشعبي من حجم الأزمة، ويعم الإضراب في مختلف المناطق اللبنانية يوم الخميس، من دون أن تبرز حتّى الساعة أي حلول لوقف الانهيار الذي تتوإلى ضرباته على رؤوس اللبنانيين أو على الأقل الحد منه. لكن ذلك لا يُحرك الطبقة السياسية وهي تعيش حالة إنكار ما خلا بعض العبارات الشاكية وتُبقي العمل السياسي والاتصالات حول تأليف الحكومة فرصة للمعارك الانتخابية والسعي للاستحواذ على القرار السياسي.
تحت عنوان تأليف الحكومة بدا السجال الحاصل أخيرًا بين الرئاستين الأولى والثانية بمثابة كباش مستطير بين الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي، يزيد على الجحيم اللّبناني نارًا في الهشيم. الرجلان اللّذان لم يخطبا الود المتبادل يومًا سوى ما تقتضيه العلاقة بين أعلى مسؤولَين في الجمهورية اللّبنانية وما تتطلبه الدبلوماسية السياسية. من الرابح ومن الخاسر في هذا الخلاف، لا أحد بحسب ما تُبديه بانوراما الحياة السياسية في لبنان. الخاسر كان دومًا ولا يزال الشعب اللّبناني والمؤسسات الدستورية، الذي لا يحق لهم التنفس سوى في فترة الاستراحة بين شوطين من المعارك المتوالدة.
الرئيسان ميشال عون ونبيه بري اختارا أخيرًا المواجهة “وجاهيًا”، رئيس الجمهورية اتّهم للمرّة الأولى علنًا البرلماني الأول بمخالفة الدستور، داعيًا إيّاه إلى عدم “التوسّع في تفسيره لتكريس أعراف جديدة لا تتآلف معه حكومة وأيضًا اتهامه بتعطيل صلاحيات رئيس الجمهورية. وبري بدعمٍ من نصفه الثاني “حزب الله”، حرّم تكليف شخصية غير سعد الحريري المكلّف رسميًا من ممثلي الشعب اللبناني.
منذ زمن طويل، تفتقد طريق بعبدا عين التينة إلى الودّ منذ “الأوراق البيضاء” التي وضعتها كتلة الرئيس نبيه بري في صندوق الاقتراع، في جلسة انتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية. واستمرت الصراعات المستترة منها والمعلنة حول ملفات كثيرة منها الانتخابات النيابية وصفقات النفط وقوانين كثيرة وتعيينات وغيرها، وصولًا إلى ما حدث قبل أسابيع في مجلس النواب في الجلسة المخصّصة لتلاوة رسالة رئيس الجمهورية وحتى التسريبات عن لاءات بري لتبديل الحريري.
واستتباعًا لهذا التنافر، العلاقة بين بري والنائب جبران باسيل متوترة، والاتصالات غائبة بينهما، بينما سيقاطع معاون بري النائب علي حسن خليل لقاءات البيّاضة التي تجمع الحاج حسين الخليل ووفيق صفا مع باسيل، خصوصًا بعد التوتر الاعلامي والسياسي الذي حصل بين حركة أمل والتيار الوطني الحر.
وبحسب ما علِم موقع “أحوال” فإن الخليل وصفا باشرا اتصالات مكثّفة لاحتواء الخلاف المستطير بين بعبدا وعين التينة بعد أن نجحا لفترة وجيزة في احتوائه بين بيت الوسط والبياضة وميرنا الشالوحي.
إلى البيانات السياسية المتطايرة ذات السقف العالي، فإن البيانات الاستخبارية التي تصل القصر الجمهوري تُفصح عن تحركات منظّمة في الشارع يتمّ التخطيط لها، للضغط على رئيس الجمهورية. والتحرّك التصعيدي للاتحاد العمّالي العام هو جزء من هذا المخطط بعدما انضمت إليه تيّارات وأحزاب مناهضة لبعبدا. في المقابل يُعدّ التيار الوطني الحر العُدّة لمواجهة المخططات التي تستهدف الرئاسة الأولى وتتحدث مصادره عن سيناريوهات “مدوّية” للجم أيّ مخطط “معادٍ”.
المخططات المتبادلة التي تُدخل البلاد في مدار الفوضى الشاملة، تضع حليف المتخاصمين في موقف لا يُحسد عليه. حزب الذي لم ينجح في تقريب ثلاثي بري الحريري وعون، لم يعد يملك أوراق “جمع القلوب”. وعلى الرغم من أنه مكبّل بشروط الحلفاء، الذين باتوا يتهمونه بعدم قدرته على ضبط الفريق الآخر وعلى حياده وأيضًا اشتراكه في تثبيت الحريري على موقع رئاسة الحكومة، يُبقي على قنوات التواصل لرأب الصدع وتجنيب البلد الانزلاق نحو توتر على الأرض ويمسك بمبادرة بري لتشكيل الحكومة.
في ظل الشرارات المتطايرة بين الرئاستين الأولى والثانية، تكشف أجواء رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري أنه في صدد تقديم تشكيلة جديدة لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون من 24 وزيرًا، وذلك خلال لقاء في زمن غير محدّد. الحريري، الذي يتّكئ على جهود رئيس المجلس النيابي ارتضى بحسب أوساطه الخروج من زاوية الحكومة المصغّرة التي كان عالقًا فيها لأشهر، لكنّه “لا يزال متمسكًا بالاختصاص والكفاءة وتسمية وزراء مسيحيين، لأنّه يحق له ذلك بحسب الدستور”.
تفاصيل أوقات اللّقاءات والمواعيد وتفاصيل الأسماء والحقائب وسيناريوهات الحل، قيد الكتمان إمّا لعدم احتمالية نجاحها أو للعمل على إنجاحها، بما أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، ويُحكى عن أفكار جديدة قيد التداول، وعن دفع فرنسي على خط مبادرة بري، وأنّ هناك زخمًا دوليًا لإنجاز التأليف.
والكلام الأخير بات موضع تشكيك بعد فشل كلّ أنواع المبادرات والوساطات، ويبقى الثابت الأساس الهمّ اللّبناني والقلق المعيشي والتدمير الحياتي وما ستقود إليه تحركات الشارع في الأيام المقبلة. الحرب المفتوحة لا تُبشر بالخير فيما البلد سيدخل دائرة الشلل مع الإضراب العام، وفق مصادر سياسية، وهذا ما سيقود في الأيّام الطالعة إلى مزيد من التصعيد.
رانيا برو