لماذا لم يقدم الحريري استقالته من دار الفتوى؟
ليست المرّة الأولى التي يلوّح بها الرئيس المكلف سعد الحريري بالاستقالة. لقد حذّر وأنصاره منها في السابق ثم انتقل إلى مرحلة التهديد بالتنفيذ الذي حصل فعلًا قبلها حين كانت البلاد ترسم انعطافة شعبية بعد أيام قليلة على تفجر الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأوّل 2019.
باستقالته تلك التي فاجأت الجميع، أضفى زعيم “تيار المستقبل” تحولًا دراماتيكيًا على البلاد بخروجه من التسوية الرئاسية التي جاءت به رئيسًا للحكومة لكن قبلها بالعماد ميشال عون زعيم “التيار الوطني الحر” رئيسًا للجمهورية، طبعا بعد منع “حزب الله” لأيّة منافسة لعون الذي أجرى بعدها أيضًا تفاهمه المسيحي الداخلي مع زعيم “القوّات اللّبنانية” سمير جعجع.
وقد مثّلت تلك الاستقالة بوضوح خروج الحريري من بروتوكول غير مكتوب مع الوزير جبران باسيل، الرئيس اللّاحق لـ”التيار الحر”، لصياغة ثنائية مارونية سنية بشخصيهما، قبل أن يشرعا في تحاصص مصلحي يمهد الأرضية المفترضة لاستكمال تلك الثنائية في الحكم.
مضت الأيّام وسقطت معها حكومة الرئيس حسان دياب التي تعرّضت للطعنات من داخلها، أعلن الحريري عودته بعد إفشال مهمة الرئيس المكلّف الذي سبقه مصطفى أديب.
تمسك الزعيم المستقبلي بالمبادرة الفرنسية لحكومة غير سياسية مع أنّه السياسي الأوّل فيها، مُخرجًا باسيل من الحكومة المشكلة وضاربًا بقوّة بأحلام الأخير الرئاسية التي عادت وتعرّضت لضربات كبرى شكّل أداء باسيل نفسه بعض مبرراتها.
والواقع أنّ الحريري كان يمهّد فعلًا الأرضية لعودته تلك، وهو لا يزال، حتى لو استقال فعلًا من رئاسة الحكومة، مصمّمًا على البقاء في الحكم والعودة على صهوة التعاطف الشعبي السني أساسًا، مع أنّ النقمة الشعبية لا توفره عن غيره من أركان الطبقة السياسية خاصة تلك التي تسلّمت الحكم مع بدء تطبيق اتفاق الطائف قبل نحو ثلاثين عامًا.
وبذلك يكون الحريري اليوم موظِفًا لاستقالته التي يلوّح بها في استثمار شعبوي، ولكن قبلها، استثمار في المفاوضات مع العهد أي رئيس الجمهورية ميشال عون وباسيل.
اجتماع دار الفتوى: تريَّث
هذا ما يفسّر ترك الحريري المجال للمفاوضات لكي تتّخذ مجال ضغوطها. إذ إنّه داخل أسوار دار الفتوى كانت الغالبية ضدّ قرار الاستقالة والرأي الذي ساد تمثّل في عدم ترك موقع سنّي سيادي ليس ملكًا للحريري أو لغيره بل هو ملك للطائفة التي خيض الكثير لكي تحظى بصلاحياتها هذه التي يجب على رئيس الحكومة السني التمسّك بها باللّحم الحيّ.
وذلك في مقابل الرأي الآخر الذي لم يكن مرجحًا بين المجتمعين الذي سأل الرئيس المكلّف: لماذا عليك أن تتحمّل وحدك مسؤولية الانهيار؟ أقذف الاستقالة في وجه باسيل وليطيح هو بالبلاد خاصة وأنّ لا اتفاق على رئيس حكومة سنّي ليشكل البديل حتى اللّحظات.
والحال أنّ البيان الذي صدر عن المجتمعين كان حادًا وعالي النبرة تجاه باسيل من دون أن يسميَه. على أنّ تهديد الحريري من دار الفتوى لم يكن آنيّ النتائج، وهو خاطب الحاضرين بأنّه لا يريد تحمّل مسؤولية ارتفاع دراماتيكي جديد في سعر الدولار بعد تقدّمه للاستقالة خاصة وأنّ مناطق الطائفة هي الأكثر تضررًا من ذلك نتيجة شرائحها الفقيرة الواسعة وهي العاجزة أصلًا عن مواجهة الكارثة الاجتماعية الحاصلة.
يشير من في بيئة رئيس “تيار المستقبل” إلى أنّ الأخير صعّد الموقف مع باسيل إلى درجة غير مسبوقة، لكنّه سيترك مجالًا للمفاوضات وخاصة لتلك التي يتولاها رئيس مجلس النواب نبيه بري، علمًا أنّ الحريري لم يوفر فرصة لتوتير الساحة مع باسيل ببياناته تارة أو بالتسريبات المهاجمة للأخير. وهو سيكسب شعبيًا في تلويحه بالاستقالة كما في تقديمها، في انتظار الانتخابات النيابية المقبلة وبذلك يستعيد سيناريو الأب الراحل رفيق الحريري في العام 2000 حين عاد إلى الحكم رغمًا عن أخصامه وفي مقدّمتهم رئيس الجمهورية آنذاك إميل لحود.
وقد يكون على الحكومة المستقيلة العرجاء الحالية الإشراف على تلك الانتخابات وسط تعذر تشكيل ما يعرف بـ”حكومة انتخابات” وهو ما يفسر دعوات كبرى خرجت مؤخرًا لتفعيلها.
وفي انتظار كل ذلك، سيبقى الحريري منتظرًا الضوء الأخضر السعودي له والذي يُقرّ حتى من في بيئته بأنّه غير متوافر، وفي الأثناء سيخوض الرجل ومعه أخصام العهد معركة نزع شرعية حكم الرئيس عون… حتى آخر أيامها.
عمار نعمة