منوعات

(2/2) الحريري في الرمال المتحركة: Lose-Lose Situation

ما سبق أساسياً جداً في فهم المرحلة، تحديداً أين يقف سعد الحريري؟ فهو غير مستعدّ للمضي قدماً في استفزاز السعودية، عبر تشكيل حكومة لا تريد المملكة أن يكون هو من يشكّلها، وهو لا يستطيع في الوقت نفسه أن يعتذر عن تشكيلها ليشكّلها شخص آخر إذا لم تطلب السعودية ذلك. لماذا؟ لأنّه يعلم أنّ المنطقة أمام مرحلة جديدة، وهو لا يملك أية تطمينات مالية أو سياسية أو إقليمية بأنّه سيكون جزءاً من هذه المرحلة الجديدة؛ في ظل النقمة السعودية – السورية المتواصلة عليه، وعلى اثنين أقلها من حلفائه التقليديين.

إقرأ أيضاً: (1/2) الحريري في الرمال المتحركة: Lose-Lose Situation

وقد ازداد الإرباك الحريريّ بعد تفصيل “تسليم” الشاهد الحريريّ الملك زهير الصديق، ليكتشف بعدها سعد أنّ جميع الاحتمالات واردة، بما في ذلك تحويله وفرع المعلومات إلى متهميّن أساسييّن في تضليل التحقيق الدولي.

عليه، ينهار البلد فيما سعد لا يستطيع أن يشكّل ولا أن يعتذر عن التشكيل. معضلة حقيقية يتخبط بها الحريري منذ “استعادته” من السعودية؛ منذ تلك الأيام وإصلاحات “سيدر” مكدّسة أمامه، ومعها عشرات الخطط لجميع القطاعات. دينامو الرجل “تكربج” منذ تلك اللحظة. وهو وضع ورقة التكليف بجيبه ليحاول أن يكون جزءاً من التسوية الكبرى المقبلة، لكنّه يعلم اليوم أنّ أفرقاء كثيرين يتحدثون مع بعضهم البعض في الداخل والخارج، دون أن يعيره أي منهم أي اهتمام.

وهكذا رفض الحريري تطبيق الدستور لجهة تشكيل حكومة مع رئيس الجمهورية وبدأ بتضييع الوقت، مختلقاً الأعذار، دون مبالاة ببيانات الرد ومؤتمرات التوضيح. فواصل الكذب لمحاولة إقناع الداخل والخارج أنّ رئيس الجمهورية يريد لعهده أن يبقى من دون حكومة. وما تكاد تتبخر كذبة، حتى تظهر ثانية وثالثة ورابعة وخامسة (..) إلى أن دقّت ساعة المكاشفة العلنية:

كانت رسالة رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب مجرّد فخ مقنّع لاستدراج سعد إلى مناظرة علنية. تنبّه الرئيس نبيه بري فوراً، وحاول ثني سعد عن الوقوع في الفخّ، لكنه لم يقبل. وهكذا خرج جبران باسيل يتعهّد علانية بأنه لا يريد ثلثاً معطلاً ولا المشاركة بشخصه أو بحزبه في الحكومة، ليردّ سعد بأنّه لا يريد احترام أية أصول دستورية في تشكيل الحكومة أو البحث أقلّه في التشكيل.

مدّ باسيل يده بكل هدوء للرئيس المكلّف من أجل تشكيل حكومة؛ مرة تلو الآخر، أكثر من خمسة عشر مرة في خمسة عشر دقيقة، لما في ذلك من مصلحة وطنية. وإذ بالحريري يشهر السيف لقطع اليد التي تمتدّ له بحسن نيّة. وقف على المنبر مجاهراً بأنّه لا يريد تشكيل حكومة مع رئيس الجمهورية كما يقول الدستور، وليس رئيس الجمهورية من لا يريد تشكيل حكومة مع سعد الحريري، كما يروّج إعلام عقاب صقر منذ سبعة شهور.

ما فعله الحريري في المجلس هو نفسه ما سبق وفعله مع اللواء عباس ابراهيم أولاً، ثم في الفاتيكان ثانياً، ثم مع الفرنسيين ثالثاً، ثم مع البطريرك الماروني بشارة الراعي رابعاً. فمع هؤلاء جميعاً، كان الحريري يبني سردية تظهره بمظهر الضحية، إلا أنّهم كانوا يحملون وجهة النظر الحريرية ويصعدون إلى بعبدا لسماع وجهة النظر هناك أيضاً. بداية كانت بعبدا تتعامل بخفة مع الموضوع، ثم تغيّرت حين شعرت أنّ هناك من يمكن أن يصدّق فعلاً هكذا “خبريات”. فباتت تفوّض كل من يراجعها بأن يُخيّط بنفسه الحكومة مع سعد، مع موافقتها المسبقة على كل ما يقرّرونه.

هكذا حصل مع البطريرك الراعي تحديداً؛ تخلّف الحريري عن وعده بتقديم الأسماء لسيّد الصرح أول مرة وثاني مرة، ثم تخلّف عن الموعد المفترض للعودة، فظهرت الحقيقة واضحة للبطريرك الذي انتقل من دعوة المعنيين بالتكليف إلى التكليف، إلى دعوة الحريري إلى الإعتذار إذا لم يكن يرغب بالتأليف، بالشراكة مع رئيس الجمهورية كما يقول الدستور.

وهكذا حصل مع الفرنسيين حين سارعوا إلى تحويله من شخص متعاون مع المبادرة الفرنسية إلى أحد أبرز المتهمين بالتعطيل وعدم التشكيل. وهكذا حصل مع الفاتيكان حين أرسلت بكركي كتاباً خطيّاً تردّ فيه على كل الأسئلة الفاتيكانية بخصوص الأزمة اللبنانية. وهكذا حصل مع اللواء عباس إبراهيم حين انتزع موافقة رئيس الجمهورية على طرح 8 – 8 – 8 ثم ذهب إلى بيت الوسط ولم يعد.

أين سعد الحريري وماذا يمكن أن يفعل؟ الرجل يواجه واحدة من أكبر الأزمات الشخصية في مسيرته السياسية. لم يعد لديه في الخارج غير مصر وسياحة عائلية في الإمارات. أما في الداخل، فعلاقته مقطوعة مع كل حلفاء الأمس في قوى 14 آذار، وخصوصاً القوات والكتائب والأمانة العامة، وهي موصولة بحبال من هواء مع النائب وليد جنبلاط الذي يعرف جيداً أنّ المنطقة أمام تحولات كبيرة لا تنفع معها أنصاف الاستدارات.

وفي النتيجة، ماذا سيفعل الحريري إذا دعا رئيس الجمهورية إلى حوار وطنيّ بشأن تشكيل الحكومة؟ هل سيسارع إلى رفض المشاركة ليؤكد أكثر فأكثر بأنه غير معنيّ بكل أشكال وأنواع الضغط للتشكيل التي يحاول رئيس الجمهورية اعتمادها ضمن حدود صلاحياته الهزيلة؟ سيفعل ذلك طبعاً، معوّلاً على النائب السابق عقاب صقر لإظهاره في بعض وسائل الاعلام بمظهر البطل لبضعة دقائق، إلا أنّ المواطن سيكتشف في اليوم التالي أنّ هذه البطولات كلها تبقيه دون حكومة.

ولنذهب أبعد، إلى أسبوعين أو ثلاثة: ماذا سيفعل الحريري إذا مضى العونيون قدماً في خيار الاستقالة بالتنسيق مع بعض الآخرين للذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة، يلاقيها الحريري دون مال ودون حاضنة إقليمية ودون خطاب سياسي أو اقتصادي ودون حلفاء؟

ماذا سيفعل سعد الحريري؟ الجواب صعب؛ المحيطون به يجزمون أنّه لن يشكّل حكومة دون إيعاز سعوديّ له بالتشكيل، لكنه لن يعتذر عن التشكيل دون إيعاز سعوديّ له بالاعتذار عن التشكيل أيضاً. هو أمام lose-lose situation بكل ما للعبارة من معنى: إذا شكّل دون موافقة السعودية، سيكون ذلك كارثياً عليه. إذا شكّل مع موافقة السعودية في ظل ما ينتظر الحكومة من تحديات صعبة، سيكون ذلك كارثياً عليه. وإذا لم يشكّل واعتذر سيكون ذلك كارثياً عليه. إذا لم يشكّل ولم يغادر سيكون ذلك كارثياً عليه.

لكن المقارنة بين أضرار الاحتمالات الأربعة يُبيّن أنّ الاحتمال الأخير هو الأقل ضرراً، إذ يمكنه تحميل غيره بعض المسؤولية فيما سيدفع الثمن لوحده في الخيارات الثلاثة الأخرى.

غسان سعود

 

غسان سعود

كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى