لم تكن معركة سيف القدس لحظةً مارقةً في تاريخ القضية الفلسطينية، هي حقيقةٌ يدركها قادة الاحتلال لربما أكثر من الفلسطينيّين أنفسهم. ما بعدها ليس كما قبلها، فهي تؤسس لمرحلةٍ مختلفةٍ تتبلور خلالها معادلاتٌ جديدةٌ على أكثر من صعيد، عنوانها العريض “بداية نهاية دولة إسرائيل المزعومة”.
إعلان وقف إطلاق النار لم يقفل أبواب الجحيم في وجه الاحتلال، والتي فتحتها سياساته الاستيطانية وخطوات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المتهورة والعنيدة التي فضحت عمق الأزمات التي تعيشها “اسرائيل” على مستوى القيادة السياسية والمجتمع وحتى الوجود. كلّ ذلك بالتزامن مع نضوج عوامل محيطة أهمّها اكتساب خيار المقاومة مشروعية أوسع لدى الفلسطينيين في كامل أراضي فلسطين التاريخية وخارجها.
عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة
كان الرّهان على أن الكبار يموتون، والصغار ينسون، ولكن القضية لم تمت، والصغار لم ينسوا، فكان جيل ما بعد أوسلو جيش الدفاع عن القدس وفلسطين في العدوان الإسرائيلي الأخير، سواء من خلال المشاركة الحاشدة في التظاهرات والمواجهات مع قوات الاحتلال، أم من خلال معركة الوعي وإيصال صورة الإجرام الإسرائيلي بحق الفلسطينيين إلى كلّ العالم.
فرغم محاولات منصات التواصل الاجتماعي، ولا سيما فايسبوك وإنستغرام، إسكات صوت الحق ومنع انتشار المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية والمناهض للاعتداءات الإسرائيلية، نجح صانعو المحتوى والناشطون الداعمون للقضية في إحراج هذه الشركات واستخدموا منصات بديلة وكسبوا معركة الوعي. وأبرز دليلٍ على ذلك، الأثر البالغ الذي تركته الفيديوهات والصور التي نشروها على المجتمعات الغربية التي شهدت مسيراتٍ وفاعلياتٍ ضخمة تضامناً مع الفلسطينيين وتنديداً بالوحشية الإسرائيلية.
توحيد الفلسطينيين
حين نادت القدس، لبّت غزّة، وانتفضت الضفّة، وهبّت مدن وبلدات الداخل الفلسطيني المحتل عام ١٩٤٨، في لوحةٍ جامعةٍ لم نشهد لها مثيلاً، لتكون أبهى صور هذا الانتصار توحيد الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، في رسالةٍ مفادها أن هذا الشعب يستطيع حين يقف وقفة رجلٍ واحدٍ تحقيق أهدافٍ ظنّها مستحيلة.
صحيح أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس سارع إلى تأجيل الانتخابات متذرّعاً بأسباب غير مقنعة، إلّا أن الفلسطينيين انتخبوا فعلاً، بالدّم لا بالحبر، خيار المقاومة ومنحوه شرعيةً غير مسبوقة وأحاطوه بتأييدٍ شعبيٍّ واسع كرّسه نداء المقدسيين: “منشان الله، يا غزة يلّا”، بعد أن أيقنوا أن الاتفاقيات والتسويات والتنسيق لا تعني سوى مزيداً من الخضوع والاستسلام.
وفي لحظةٍ، حين حاول المستوطنون محاطين بجحافل قوات الاحتلال المساس بالمقدّسات وتهجير أهالي حيّ الشيخ جرّاح، وضع الفلسطينيّون الخلافات السياسية والتّناحر بين الفصائل جانباً، واصطفّوا خلف أهدافٍ مشتركةٍ أوّلها حماية المقدّسات والهوية، في مواجهة عدوٍّ واحدٍ حاول جاهداً على مدى عقود تفريق الفلسطينيين وقطع الأوصال بينهم وفق حدودٍ وهميةٍ ومسمّياتٍ فارغةٍ أشنعها “عرب إسرائيل”، فأثبت “فلسطينيّو الداخل المحتلّ” أنّهم فلسطينيو الهوية والانتماء حتّى النّخاع، وأنّهم متمسكون بجذورهم وأرضهم مهما سعى المحتلّ إلى تصويرهم عكس ذلك.
“دولة إسرائيل” المزعومة أمام أزمة وجود غير مسبوقة
مجريات الحرب الأخيرة أظهرت حجم الوهم والكذب اللذين يلفّان “إسرائيل”، هذا ما قالته صحيفة يديعوت أحرونوت، معتبرةً أنّ الوضع اختلف تماماً، وعلى “إسرائيل” إدراك هذا والتصرف على أساسه. وهذا فعلاً ما أثبتته التطورات الأخيرة التي وضعت الاحتلال أمام أزمة وجودٍ حقيقية، ولا سيما في الداخل المحتلّ، إذ شهدت حيفا ويافا واللّد وأم الفحم وغيرها من المدن والبلدات مواجهاتٍ عنيفةً بين الفلسطينيّين والمستوطنين مدعومين من شرطة الاحتلال.
اعتداء المستوطنين على الفلسطينيّين وممتلكاتهم، واستخدامهم كل الطرق ومنها مواقع التواصل لإنشاء مجموعاتٍ (١٠٠ مجموعة خلال فترة العدوان عبر تطبيق واتساب فقط) حشدوا عبرها أنفسهم ونسّقوا اعتداءاتهم، دليلٌ على أن مفهوم التعايش الذي حاولت “إسرائيل” تسويقه سقط إلى غير رجعة، و”الدولة” الديمقراطية التي سعت إليها فشلت فشلاً ذريعاً، وانكشفت التصدّعات العميقة في جدارها المجتمعي والتي حاولت طويلاً تغطيتها بثوبٍ من قماش.
المستوطنون أنّفسهم أثبتوا أن العنف، والعنف فقط هو ما يحكم “دولتهم”، وهم لا يؤمنون ولا يمارسون سوى لغة القوّة والإرهاب، أما القانون والنّظم والقيم شعاراتٌ كاذبة لا قيمة فعلية لها. وحين سُعِر المستوطنون ظهرت وحشيتهم وإجرامهم المكبوت، في دليلٍ واضحٍ على أنّهم يستشعرون قرب نهايتهم.
فشلٌ عسكريٌ واستخباريٌ اسرائيلي قابله تطوّرٌ مفاجئ لقدرات المقاومة
“الجيش الذي لا يُقهَر” مقولةٌ سقطت، لا بل أصبحت مضحكة بعد الهزيمة التي حلّت بالاحتلال. فالميزان هنا ليس عدديّاً، يقيس عدد الشهداء الفلسطينيين مقابل قتلى الاحتلال (الذين لا يُعلن عن أعدادهم)، بل يحتسب التطوّر الذي حقّقته المقاومة عسكريّاً والأهداف التي أصابتها، مقابل حالة الذهول التي أصابت المحتل وجعلته يقصف من دون هدف. فهو ما كان ليجرؤ على دخول غزة التي هرب منها، واستهداف الأبراج والمنازل والمدنيّين دليلٌ على أنّ بنك أهدافه مفلس، في حين أن المقاومة الفلسطينية ضربت مطاراته ومنصة الغاز وشركة الكهرباء ووسائل النقل والمستوطنات القريبة والبعيدة، بعد أن أثبتت صواريخها فشل نظام القبّة الحديدية، ليصبح مستوطنوها الذين اختبأ 70% منهم في الملاجئ طيلة فترة العدوان، تحت مرمى صواريخ غزّة.
وسائل الإعلام الإسرائيلية أحصت 3500 صاروخٍ أُطلق من القطاع باتجاه المستوطنات القريبة من الغلاف والبعيدة عنه. هو تطوّرٌ كمّي أكّده الناطق باسم كتائب القسّام، الجناح العسكري لحركة حماس، “أبو عبيدة” بالقول: “جهّزنا أنفسنا لقصف تل أبيب لستة أشهرٍ بشكلٍ مستمرٍّ.”
التّقدم العسكري لفصائل المقاومة انسحب على تحديد مواعيد القصف والأهداف وتطوّر نوع ومدى صواريخها، إذ فاجأت الاحتلال خلال معركة سيف القدس بصواريخ عياش 250، وA120، وSH85، وطائرتي شهاب المسيرّة الانتحارية والزواري المسيّرة الاستطلاعية والغواصات المفخّخة، وألحقت أضراراً موجعةً بعدوّها، ما خلق معادلةً جديدةً من توازن الرعب، لا تكفّ يد الاحتلال عن غزّة فقط، بل عن القدس والضفّة وفلسطينييّ الداخل، وتؤكّد جهوزيتها وقدرتها على الرّد.
بعد سيف القدس، سيفكّر الإسرائيلي ألف مرّة قبل أن يجرؤ على اجتياز أيٍّ من الخطوط الحمر التي رسمتها المقاومة الفلسطينية. فالمعادلة اليوم أصبحت القصف مقابل القصف، والتصعيد مقابل التصعيد، وصواريخ المقاومة لا ترحم.
“سيف القدس” أحرجت المطبّعين
حين طبّعت بعض الدول العربية علاقتها مع الاحتلال الإسرائيلي، كانت تظن أن القضية الفلسطينية انتهت، والفلسطينيين نسوا حقوقهم، إلّا أن الانتفاضة في مختلف أراضي فلسطين أثبتت زيف ادّعاءاتها، ودماء المدنيين والأطفال ووحشية العدوان الإسرائيلي أحرجت أنظمة الدول المطبّعة أمام شعوبها وأمام الرّأي العام العالمي الذي خرج مستنكراً.
والدول المطبّعة التي احتمت بـ “إسرائيل” خوفاً من إيران، أيقنت اليوم أن “إسرائيل” غير قادرة على حماية نفسها، وصواريخ المقاومة الفلسطينيّة عرّت ضعفها أمام العالم، وأحرجت صناعة السلاح الأميركية. كلّ ذلك يُثبت أن التطبيع مع الاحتلال لا يمكن أن ينجح مهما حاول الطّرفان، لأن الطرف الثالث، صاحب الحقّ، وله كلمة الفصل دائماً، وهي “لا”.
آلاء ترشيشي