اللبناني ضحية الانتظارِ على أعتاب المجهول، والحكومة عالقة في نفقٍ ليس في آخره نور
أشهرٌ ستّة مرّت على استقالة حكومة الرئيس حسّان دياب، بعد الانفجار الذي هزّ العاصمةَ اللبنانية بيروت، لتعلنَ بذلكَ مدينة منكوبةً، وأمًّا مكلومةً، وعاصمةً شهيدةً.
لعلَّ انفجارَ مرفأ بيروت كانَ فاتحةَ الأحزانِ اللبنانية، ومفتاحَ الطريقِ إلى الانهيارِ المتوقّعِ، صحّيًّا وأمنيًّا، اقتصاديًّا واجتماعيًّا.
وفي الوقتِ الذي كانَ الوطنُ فيه أحوجَ ما يكونَ إلى حكومةِ إنقاذٍ حكيمةٍ وقادرةٍ، تمَّ الاتفاقُ بالأكثرية النيابية على تسمية الرئيس سعد الحريري، رئيسًا مكلّفًا لتشكيل حكومةِ إنقاذٍ تبدد مخاوف اللبنانيينَ وترفعُ عنهم شبحَ الفقرِ والجوع.
ليستِ المرّةَ الأولى التي يطولُ فيها تأليفُ الحكومةِ اللبنانية، فقد تعوّدَ اللبنانيُّ حتّى ملَّ منهُ التعوّد. حكوماتٌ لم تبصر النورَ لاعتذارِ رؤوسائها المكلفين عن مواصلة التأليف، وحكوماتٌ وئدت حيّةً لتحملَ على عاتقها ذنبًا لم ترتكبهُ إنّما تفاجأت بهِ، وأخرياتٌ عُرقِلَت بسببِ اقتتالٍ على مقعدٍ هنا ووزارةٍ هناك، واللبنانيُّ يطلبُ الرحمةَ وينتظرُ الخلاصَ ببالغِ الذهولِ والتعب.
منذُ السّابعِ عشرَ من تشرين الأول، من العام 2019، بدأت عجلةُ الانهيارِ بالإسراعِ بالجمهوريّةِ نحوَ الحَافّة. حجزٌ على أموالِ المودعينَ في كافةِ المصارفِ المحلّية، ارتفاعٌ تدريجيٌّ لسعرِ صرفِ الدولارِ وغيابُهُ في السوق، يقابلهُ تدهورٌ غيرُ مسبوقٍ لقيمة العملةِ الوطنية، تبعَ ذلك ارتفاعٌ خانقٌ في أسعارِ السلعِ والخدمات، خصوصًا تلك السلعُ المستوردةُ من الخارج. احتكارٌ من بعضِ التجّارِ للسلعِ الغذائية الأساسية، وعرضها بعدَ ذلك بأسعارٍ خياليّةِ في السوق، واللبنانيُّ المجبرُ على الشراءِ هو الضحيّةُ والقربانُ، إن صحّ التعبير.
وزارةُ الاقتصادِ في حكومةِ تصريفِ الأعمال لا خطة جديّةً لها على صعيدِ مراقبة المحتكرينَ من التّجار، ولا قدرةَ لها على لجم ارتفاعِ أسعارِ السلعِ الغذائيةِ في المحالِّ والتعاونيات، فبتنا نسمعُ ونرى عددًا غيرَ قليلٍ من المواطنينَ يتعاركونَ في المحالِّ والتعاونيّاتِ لا بل يخوضونَ حربًا في سبيلِ قنينة زيتٍ أو كيسِ سكّر. زد على ذلك أن الوزارة المذكورة لم تعد قادرةً حتّى على دعم الطّحينِ كسابقِ عهدها في ذلك، حتّى بلغ سعرُ ربطة الخبز 2500 ل.ل، بعد أن كان سعرها 1500 ل.ل، مطلع العام 2020، وتقلّصَ وزن الرغيف تدريجيًّا فلم يعد يكفي لسدِّ جوعِ المواطنين.
تستقيلُ حكومةُ الحريري تحت ضغط الشارعِ عام 2019 ليكلّفَ الرئيس دياب بالمهمة، مهمةُ إنقاذِ ما يمكنُ إنقاذهُ، لتستقيلَ حكومةُ الأخيرَ تحتَ ضغطٍ آخر، ويعودُ اللبنانيُّ معَ تكليف الحريري مجددًا إلى نقطة الصفر، نقطةُ انتظارِ التأليف، ومواصلةِ العيشِ على أملٍ بالتغييرِ.
وخلالَ انتظارِ اللبنانيينَ تحسّنَ الحالِ لم يرأف وباءُ كورونا بحالهم، فزادَ وطأتهُ عليهم، حتّى حصدَ منهم أرواحًا، وأودَعَ أعدادًا ليست بقليلةٍ منهمُ المستشفياتِ التي بدأت تشكو هي الأخرى، من جهةٍ قلّة الدعمِ المادّيِّ وتردّي أحوالها الاقتصادية، ومن جهةٍ أخرى اكتظاظَ الأسرّةِ والغرفِ بالمصابين.
وبعدَ أن بلغت الإصاباتُ عددًا ألفيًّا من المواطنين والوافدين، عمدت وزارةُ الصحةِ في حكومة تصريف الأعمال إلى إستيراد اللقاحاتِ المختلفةِ من ألمانيا وأميركا وروسيا والصين، وقد بدأت التلقيحَ منذُ عدّة أسابيع.
يزور الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، رئيسَ الجمهورية في قصر بعبدا، ما يزيدُ عن عشرِ مرّاتٍ خلال هذه الفترة، فترةُ انتظارِ المجهول، بالإضافةِ إلى زياراتٍ لدولٍ إقليميةٍ عديدةٍ، كجمهورية مصر العربية والجمهورية التركية ودولة الإمارات العربية، وليسَ من جديدٍ على الصّعيدِ الحكوميّ، وليسَ من اتّفَاقٍ يعيدُ الأملَ إلى اللبنانيين، ويحرّكُ عجلةَ التأليفِ قبل الانهيار الكبير.
صندوقُ نقدٍ دوليٍّ ينتظرُ تسليفَ حكومةٍ أمينةٍ تحظى بثقةِ المجتمع الدولي، قادرةٌ على الإصلاح وتطبيقِ مقررات المبادرة الفرنسية.
كهرباءُ لبنان تنتظرُ حكومةً تستوردُ الفيول من الخارج بعد انتهاءِ عقدِ شركة “سوناطراك” المخولة بتزويد الدولة بالفيول، وبيوتٌ منسيةٌ تغرقُ في عتمتها، بعد سياسة التقنينِ القاسية التي تتبعها مصلحة الكهرباء، وأصحابُ المولّداتِ يهددونَ برفع التسعيرةِ في أمدٍ ليس ببعيد.
زد على هذا كلّه، ارتفاعٌ بالأمسِ لسعر صرف الدولار حتى لامسَ عتبة ال 15000 ل.ل. في السوق السوداء، وتهديدُ المصرف المركزي بين الآونة والأخرى برفع الدعم كلّيًّا عن المنتجات المدعومة، إذ أنّهُ على وشك صرف كل ما يوجد في احتياطهِ الإلزاميّ على الدواءِ والطحينِ والبنزين، “وما رايحة إلا عالمواطن”.
الوضعُ إذًا لا يحتملُ التلكّؤ، ولا المناكفاتِ السياسيّة، ولا تقديم الأعذار، فضلًا عن تقاذف المسؤوليّات، والمطالبةِ بأثلاثٍ معطّلة، وحكومةٍ تئنُّ بينَ 18 و22 وزيرًا، تنتظرُ مع اللبنانيين نورًا في آخر النفق. هو الوقتُ إذًا، لتحمّل المسؤولية، ووضع مصلحةِ البلادِ أوّلًا وفوقَ أيِّ اعتبار، والاسراعِ في تأليفِ حكومةِ إنقاذٍ عتيدةٍ وقادرةٍ على مواجهةِ التحدّيات، وإلا فالانفجارُ الاجتماعيِّ آتٍ لا محالة.
عبدالعزيز سامر الزّغبي