منوعات

البرلمان اللبناني يجرّم “التحرش”.. ماذا عن شوائب القانون؟

كَثُر الحديث عن ارتفاع نسب التحرّش الجنسي بالنساء في العالم العربي، بعد دخولهنّ ميادين العمل وخروجهنّ لمواجهة المجتمع، إذ أدركت المرأة حقوقها وباتت أكثر قدرة على تعريف وتحديد التحرّش حال تعرّضها له.

عام بعد عام، ازدادت شجاعة النساء في التصدّي لهذا الاعتداء، حيث وثّقت “شعبة العلاقات العامّة” في المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي، 143 شكوى تحرّش جنسي بين شهري تموز وآب 2020، وهي أكثر بـ104% من الحالات التي تمّ توثيقها في الفترة نفسها من العام 2019، علمًا أن هناك الكثيرات لا يزلن يخفن من تقديم شكوى، لأسباب مجتمعيّة وسلطويّة وقانونيّة، إذ اعتاد القانون إدراجه ضمن خانة “بنود أخرى”، كالتهديد والابتزاز وتشويه السمعة.

اليوم وللمرّة الأولى، يقرّ المجلس النيابي اللبناني قانونًا يرمي إلى “تجريم التحرّش الجنسي وحماية ضحاياه”، وذلك بعد سلسلة محاولات من جهات سياسيّة ومجتمعيّة وقانونيّة.

نظرة عامّة حول القانون الجديد

المحاميّة بالاستئناف والعضو في المفكرة القانونيّة، يمنى مخلوف، تشرح في حديث لـ”أحوال” أن العمل على هذه القضيّة بدأ بجهود قدّمتها “جمعيّة المجموعة النسويّة” بالتعاون مع المفكّرة القانونيّة عام 2012، ليتبعها مشروع قانون قدّمه النائب السابق غسّان مخيبر إلى مجلس النوّاب عام 2017، وبعدها مشروع قانون تقدّم به وزير الدولة لشؤون المرأة جان أوغاسبيان في العام نفسه، ثم تقدّمت “الهيئة الوطنيّة لشؤون المرأة” بمشروع قانون، تبعه مشروع آخر تقدّمت به الوزير عناية عز الدين.

أمّا القانون الصادر اليوم الخميس، بحسب مخلوف، فقد تمّت صياغته من خلال توليفة أُجريت بين مختلف الاقتراحات ومشاريع القوانين المطروحة سابقاً في هذا المجال، وتحديدًا مشروعَي الوزيرة عز الدين والهيئة الوطنيّة لشؤون المرأة.

وتؤكّد مخلوف على أهميّة إصدار قوانين تحمي النساء من التحرّش الجنسي، كونهنّ تعشن ضمن مجتمعات تمنح الذكور الكثير من الامتيازات عليهنّ، “فمهما بلغت قوّة المرأة اجتماعيًّا ونفسيًّا وماديًّا وعمليًّا، إلا أننا لا نزال نسمع قصصًا كثيرة من نساء يمتلكن مراكز اجتماعيّة مرموقة، لكنّهن يتعرّضن للتحرّش، ويعود ذلك لمفاهيم سائدة تمنح ذكور هذا المجتمع “سلطة غير مباشرة”، تتعلّق بالتركيبات الاجتماعيّة”، تقول مخلوف.

من هنا، تشدد المحاميّة بالاستئناف والعضو في المفكرة القانونيّة على أهمية تكريس التحرّش الجنسي، لافتة بالمقابل إلى أن شوائب عديدة تعتري هذا القانون، إذ تسوده فلسفة “الجرائم ضد الآداب العامّة”، التي لا تتناسب مع أهداف محاربة التحرّش الجنسي، حيث أثبتت هذه المقاربة فشلها في السنوات السابقة، بالإضافة إلى أن القانون لم يقارب المسألة بما يراعي الفوارق في موازين القوّة في أماكن العمل وفي المجتمع، كما أنّه يطلب من الضحيّة إثبات وقوع الفعل “وهذا أمر صعب للغاية”، وفقًا لمخلوف التي شدّدت على ضرورة فهم علاقات العمل وتنظيمها، ومحاربة التحرّش على أساس مؤسساتي أكثر مما هو فردي.

الثغرات التي تحيط بالقانون الجديد

أما في ما يتعلّق بالإشكاليّات المطروحة حول القانون الصادر اليوم الخميس، فيؤكد مضيف البودكاست القانوني في المفكّرة القانونيّة، المحامي كريم نموّر في حديث لـ”أحوال”، وجود العديد من الثغرات التي قد تزعزع الثقة بقدرة القانون على إنصاف الضحايا، ما قد يؤثّر سلبًا على تحفيزهن لتقديم شكوى، رغم أن هذا القانون هو، وفقًا لنمّور، خطوة جيّدة لناحية اعتراف المشرّع في لبنان بمصطلح “التحرّش الجنسي” للمرّة الأولى في تاريخه، ولناحية إمكانيّة البناء على التجربة التي ستبرز العديد من الثغرات بعد تطبيقه.

ويشير في معرض ملاحظاته حول القانون الجديد، إلى إشكاليّة استخدام كلمة “سيّء” في توصيف السلوك المُقترَف، إذ يرى نمّور أن هذا المصطلح يجعل المقاربة أخلاقيّة أكثر من كونها آيلة إلى حماية الضحايا، ما يعني إدخال عنصر “غير موضوعيّ” لتوصيف فعل ما على أنه تحرّشًا، بالإضافة إلى أنها تبعد ضحيّة التحرّش من قلب فلسفة النص القانوني وتستبدلها بحماية الأخلاق العامّة، مشدّدًا على خطورة اللجوء إلى هذا التوصيف مباشرة قبل تعبير “الخارج عن المألوف”، الأمر الذي يفتح بابًا لتأويل النص القانوني وإستغلاله بهدف إستبعاد حالات التحرّش الجنسي التي قد تقع في أطر العلاقات الزوجية أو بمعرض الخطوبات، وتالياً إعفاء المتحرّش في هذه الحالات من المحاسبة القانونية.

في المقابل، يلفت نمّور إلى أن هذا القانون لم يتضمّن أحكامًا خاصّة بإمكانها التصدّي للتحرّش المعنوي، “رغم أنه الأكثر انتشارًا في المجتمع، لا سيما في إطار علاقات العمل، ما قد يؤثّر مباشرة على التدريب المهني والإستمرارية في الوظيفة أو حتى على الترقية أو الأجر، أو يمكن أن يُحدث بيئة عمل تخويفية أو عدائية أو ضاغطة أو مذلّة”، مسلّطًا الضوء في سياق حديثه لـ”أحوال”، على إشكاليّة “عدم امتلاك الضحيّة سوى وسيلة واحدة للشكوى، وهي اللجوء للقضاء الجزائي بدلًا من القضاء المدني، وما لذلك من تداعيات على شعور الضحية ببيئة إجتماعيّة أو بيئة عمل غير سليمة، “إذ في حال قرّرت اللجوء لهذا القضاء ضد رب عملها، على سبيل المثال، من يضمن لها استمراريّتها في العمل؟”، يسأل نمّور، مشددًا على ضرورة تحديد آليّة لضمان حماية الضحيّة والشهود، بدل الاكتفاء بالتأكيد عليها ضمن مواد القانون.

من جهة أخرى، يوضح المحامي نمّور أن الاقتراح لا يميّز بين أجير وصاحب عمل، في حال وقع التحرّش ضمن إطار العمل، ما قد يساعد أصحاب النفوذ في استغلال هذا النص ضد أجرائهم، “لذا كان لا بد أن يأخذ المشرّع في عين الاعتبار طبيعة علاقات العمل غير المتساوية في لبنان”، مضيفًا: “كما تقاعس الاقتراح عن إيجاد أي موجبات على أصحاب العمل بوجوب تضمين نظام الأجراء الداخلي بنودًا خاصة، للوقاية ولمعالجة ولحماية أجرائهم من أفعال التحرّش داخل مكان العمل أو في معرض ممارستهم للمهنة، وتاليًا ترتيب النتائج القانونيّة على أصحاب العمل الذين لا يحمون أجراءهم في مثل هذه الحالات”.

وعلى الضفّة الموازية، يعتبر نمّور أنَّ ربط الغرامات بالحد الأدنى للأجور هو “أمر جيّد نظرياً”، ولكن يبقى السؤال حول مدى فعاليّة تلك الغرامات لردع التحرّش في ظل تدهور الليرة اللبنانية، خاتمًا كلامه لـ”أحوال” بالإشارة إلى إشكاليّة إلقاء القانون الجديد عبء “الإثبات” على الضحيّة، على غرار ما قامت به اقتراحات ومشاريع القوانين السابقة في هذا المجال، “إذ أوجب إثبات تداعيات التحرّش على الضحية لتكوين الجرم، باستخدامه صيغة النتيجة الحاصلة بدلًا من استخدام النتيجة الممكنة أو المتوقعة، مثل: “سلوك… يشكّل انتهاكاً للجسد أو للخصوصية أو للمشاعر”، بدلاً من “قد يُشكّل…”، أو “كلّ فعل أو مسعى… يهدف فعلياً للحصول على منفعة ذات طبيعة جنسيّة يستفيد منها الفاعل” إلخ.. وهذا الأمر يحتّم على الضحيّة إثبات الضّرر والنيّة (“يهدف فعلياً”)، وهو أمر غالباً ما يصعب إثباته في قضايا التحرّش، ولهذا السبب خفّف مشروع قانون المجتمع النسوي عبء الإثبات على الضحية، معتمداً أحرف التوقع (مثل “قد”) في توصيفه لنتائج الفعل المقترَف، إذ كان من الأجدى أن يتبنى الاقتراح الراهن الأسلوب نفسه”، يقول نمّور.

تجارب نسويّات في السنوات السابقة

تؤكّد الباحثة النسويّة، جنى نخّال، في حديث لـ”أحوال” أنها طيلة عملها الميداني لم تطّلع على أيّ قوانين تحمي النساء ضمن أماكن العمل في لبنان، حتى داخل المنظّمات غير الحكوميّة التي ترفع شعار التقدّميّة، سوى المنظّمات الدوليّة المفروض عليها وضع نظام داخلي لحماية النساء، مشيرة كذلك إلى غياب مثل هذه الأنظمة عند الأحزاب اللبنانيّة، تمامًا كما تغيب المفاهيم الاجتماعيّة الداعمة للنساء في هذا المجال.

وبحسب نخّال، يستكمل القانون اللبناني حلقة الخوف التي تقع بها معظم النساء، “فرغم تأخّره في الاعتراف بالتحرّش حتى اليوم، أتى القانون محمّلًا بجملة من الإشكاليّات التي قد تردع النساء عن التصدّي لأي اعتداء عليهنّ”، تقول نخّال، مستشهدة بإحدى قضايا النساء التي عاينتها عن قرب، إذ حدث أن “ادّعت إحداهنّ على أحد العسكريين بالتحرّش، وخلال التحقيق تفاجأت بأسلوب الأسئلة التي يطرحها المحقّق نفسه، إذ كرّر عليها سؤال “هل مسك مؤخرتك؟”، وفي كل مرّة تعيد عليه الجواب بـ”نعم”، فكان يضيف “كيف مسكها؟!”، الأمر الذي جعلها تشعر بالتوتّر. وحين اشتكت، سارع هو –المحقّق- إلى رفع دعوى “افتراء” عليها، ما اضطرها إلى توكيل محاميّة وبالتردّد إلى المحكمة بشكل متكرّر وتحمّل أسلوب التحقيق الذي وضعها مع المدعى عليه في الخانة نفسها، دون أن يأخذ القضاء في عين الاعتبار أي موازين لفرق القوّة بينها وبينه كرجل وكـ”عسكري”، ما اضطرها إلى سحب الدعوى لأنّها لم تعد تثق بتحقيق العدالة في حقّها.

من جهة أخرى، اضطرت الكثيرات للسكوت عن تحرّش رب عملها بها، أو عن تحرّش أحد زملائها في العمل، خوفًا من خسارة وظيفتها، لافتة إلى أن إحدى أبرز الأمثلة هنّ النساء العاملات في ميادين الإعلام والطيران والفنادق، إذ يتعرّضن للكثير من أشكال التحرّش والتعدّي على مساحاتهنّ الخاصّة، والحديث عن أجسادهن في الوقت الذي لا يحق لأحد تحديد معايير جماليّة تصل إلى حد القول للمضيفات “قصري التنورة”، علمًا أن مضيفات الطيران يعملن حاليًّا على معالجة هذه المسألة بشكل جدّي، تقول نخّال.

هل ثمّة نماذج على مستوى العالم

تؤكّد الباحثة النسويّة أنها اكتشفت، خلال البحث في الميدان عن أشكال وأنواع الأنظمة الداخليّة في العالم لحماية النساء، أنّ ردّة الفعل على هذه القوانين تمثلت بانخفاض قبول وتوظيف النساء في ميادين العمل، “ولكن ثمّة بعض النقابات التي وضعت أنظمة داخليّة على مستوى العالم، ويمكن أخذها كمثال جيّد، كالنظام الداخلي لحزب العمّال البريطاني، على سبيل المثال لا الحصر”.

الخطوات القادمة للنسويّات

وفي الختام، تقول نخّال لـ”أحوال”: “علينا كنسويات أن نبدأ بدعم بعضنا البعض من خلال تشجيع المتحَرَّش بهنّ على الإبلاغ، وبتنظيم تدريبات للنساء والرجال معًا، تشرح فيه لهم/نّ مفهوم التحرّش وأشكاله وخطورته، وكيفيّة التصدّي له ومعالجته بهدف الوقاية منه”، مضيفة: “كما يتوجّب على العاملات في الحقل القانوني أن يعملن على تغيير أشكال التحقيق، بفرض شكل معيّن لمثل هذه المحاكمات بحيث تراعي موازين القوّة، سواء لجهة جنس المحقّق والقاضي (أن تكون امرأة)، أو لجهة عدم انحيازهم لأصحاب السلطة (أرباب العمل، أصحاب المال أو النفوذ، وأصحاب السلطة في هذا المجتمع)، كما ينبغي التركيز على تحويل المعاقبة إلى أمر “تعليمي” قادر على حماية النساء في الوقت عينه، لأن المعالجة رغم أهميّتها، لا تلغي أهميّة الوقاية”.

إذًا، لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أن للسلطة أشكالًا مختلفة، فأفعال النساء والرجال تتساوى حين تكون موازين القوى بينهما متساوية، هذا إن تحدّثنا عن “الجندر” ولم نتطرّق إلى الحديث عن مقدار قوّة اللاجئات أو العاملات الأجنبيّات. فكيف سيتم التعامل معهنّ فيما لو تقدّمن بشكوى؟ وما الذي تخفيه هذه النساء من جرائم تتعرّضن لها؟ أما السؤال الكبير، فهو هل سيكون القانون الجديد بمثابة حجر أساس يمكن البناء عليه لاحقًا من خلال مراكمة الوعي حول جرم التحرّش وكيفيّة التعامل معه، وبالتالي تعديله مستقبلًا بما يحقّق فعلًا “حماية ضحاياه”؟ أم سيتم استغلال ثغراته وتشكيل بيئة أكثر خطرًا على الضحايا؟

تيمة حطيط

تيمة حطيط

كاتبة وصحافيّة لبنانيّة، عملت كمعدّة ومقدّمة برامج ومراسلة في العديد من الفضائيّات العربيّة. ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المهمّشين، وحقوق المرأة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى