عن الراحل ميشال تابت شرير الشاشة وعملاقها
عندما ذهبت لمقابلة الراحل ميشا تابت، مرّ في ذهني للحظات أنني سأقابل شخصاً متحجر القلب، فظ الطباع، يتدفق الشرّ من عينيه. هذا الشعور مرده إلى أنّ هذا الرجل الذي فرض نفسه كأحد عمالقة فن التمثيل في لبنان والعالم عربي يتقمص أدوار الشر ببراعة فائقة، إلى درجة تصدق أنّه صناعة شيطانية بامتياز؛ لكن هذا الشعور سرعان ما يتلاشى عندما يفتح لك باب منزله مرحباً بودّ ولطافة.
مسيرة الراحل ميشال تابت
من عامل “درزة” عند أحد الخياطين إلى عامل في مطحنة، تنقّل ميشال تابت تحصيلاً للقمة العيش، وكان لا يزال دون العاشرة. نصب له الفقر حاجزاً ومنعه من إكمال طريقه نحو مقاعد الدراسة. محاولاته المتكررة للعودة إلى مقاعد الدراسة ارتطمت مراراً بجدار الفشل؛ فحاجز الفقر كان دائماَ يصرّ على عدم اعطائه إذناَ بالعبور. وكان لابد من طريق آخر تحقق له ما كانت نفسه تحلم به دائماً، وهو أن يكون صاحب شـأن في عالم الفن؛ مستنداً في ذلك إلى موهبة تقليد الاصوات التي بدأ يظهر نموها في حنجرته وهو لا يزال في الرابعة.
عام 1944 ألّف ميشال تابت مع أترابه في الحي الذي يسكنه في منطقة عين الرمانة، فرقة مسرحية سموها “فرقة الأرز الفنية”؛ وكان يومذاك في الرابعة عشرة، وكان في عدادها من أصبحوا في ما بعد روّاد الصناعة السينمائية في لبنان، وبينهم جورج قاعي وميشال تامر.
الفرقة تدرجت سريعاً في عروضها من الأحياء الشعبية في عين الرمانة وفرن الشباك إلى “مسرح التياترو الكبير”؛ الذي وقف على خشبته نجوم الفن الكبار في العالم العربي أمثال يوسف وهبي. وقدمت فرقة الأرز الفنية أول عروضها الاحترافية بمسرحية “العاشق الشارد”، التي شهدت بدايات إبداعاته في أدوار “الشر”، وهي تحوّلت فيما بعد إلى أول انتاج سينمائي لبناني بعنوان “حكم القدر” من إخراج جورج قاعي.
أما مسرحية عذاب الضمير، فشهدت تطوراً لافتاً في مسيرته الفنية؛ فيما شخصية الشرير التي تقمصها، أحبها الجمهور إلى درجة التعاطف العميق مع من كانوا ضحاياها على خشبة المسرح. انفعالاتهم الواضحة كانت تظهر وكأنّهم يعيشون في أجواء حقيقية يحاصرها الشرّ من كل جانب.
بعد هذا العمل المميز أكملت الفرقة عملها ولكن من دونه. خمس سنوات أمضاها بعيداً عن شجرة الفن، التي يقول إنّ ثمارها الحلوة واللذيذة لم تكن تشبع جائعا في ذلك الحين؛ لذا كان عليه الانخراط مجدداً في سوق العمل لتلبية حاجات عائلته، ففتح “صالون” حلاقة.
ميشال تابت “المكايير”
عام 1949 عاد إلى الساحة الفنية مجدداً ليخط مع رفاق له أول سطور التجربة السينمائية في لبنان بفيلم “حكم القدر”، وهو أول إنتاج سينمائي لبناني كان من إخراج المرحوم “جو بحري”. لم يكن ذلك كل شيئ؛ ففي هذا الفيلم كانت ولادة فنية لميشال ثابت أخر، هو اختصاصي المكياج السينمائي والتلفزيوني. وحينها، سأل كاتب السيناريو جوزف الغريب عن موعد قدوم اختصاصي المكياج، وأصابته الدهشة عندما أتاه الجواب “هو بيينا الآن واسمه ميشال تابت”.
وصول ميشال تابت “المكايير” إلى القمة كان في فيلم “القديس شربل” عام 1961، وفيه أيضا مثّل دور “رئيس الدير”. الممثلون كانوا من الرهبان الحديثي السن وأكبرهم لا يتجاوز العشرين من العمر، وكانوا يتقمصون أدوار كهنة رافقوا شربل في مسيرته منذ بداياتها حتى أخر سنين عمره.
بأدوات بسيطةـ استطاع ميشال تابت تحدي نفسه واثبات جدارته في هذه المهنة، حيث أضفى على وجوههم الفتية ملامحاً تظهر تطوّر أعمارهم في مراحل مختلفة وصولا إلى مرحلة الشيخوخة. “كثيرون ممن شاهدوا الفيلم لم يفطنوا إلى أنّ الممثلين كانوا هم أنفسهم طوال الوقت”.
تجربة ميشال تابت في تلفزيون لبنان
علاقة تابت بتلفزيون لبنان بدأت قبل انطلاقته بسنوات عدة. عرض عليه المنتج المصري يوسف صالح العمل معه في أحد برامجه في مصر؛ فأعطى موافقته المبدئية، ولكن المشروع لم ينفذ، وغاب بعدها يوسف صالح عن لبنان ليعود عام 1959 ويعرض على ميشال ثابت دور البطولة في تمثيلية كانت هي الاولى تلفزيونياً في تاريخ الدراما اللبنانية.
وجه ميشال تابت كان الأول الذي تصوّره كاميرات التلفزيون اللبناني أيضاً. ليس هذا كل ما يعتز به ميشال ثابت في تلك المرحلة. فقد شعر بثقة كبيرة بالنفس، عندما سمع مصادفة المخرج الياس متى يقول للممثلة “كهرمان”: تأخرك في الحضور فوّت عليك متعة مشاهدة ميشال تابت وهو يمثل”.
ورأى المخرج عصام حموي في ميشال تابت الممثل مقدماً ناجحاً لبرامج المنوعات، لكن لم ترقه الفكرة وحاول التملّص منها؛ إلا أنّه حوصر بإصرار حموي فاضطر إلى القبول. النجاح الجماهيري للبرنامج لم يغير في قناعاته بأنّه دخل عالماً ليس عالمه؛ وصموده لم يستمر أكثر من خمسة أسابيع غادر بعدها دون أن يلتفت الى الوراء.
شخصية دعيبس الكوميدية
بعد تفوّقه في أدوار الشر وظهور موهبته في فن “المكياج”، جاءت شخصية دعيبس الكوميدية في برنامج المنوعات “صندوق الفرجة” عام 1963 الذي قدمه إحسان صادق، لتكتمل بذلك شخصية ميشال تابت الفنية الثلاثية البعد.
شخصية “دعيبس” كانت هندسة جديدة لفن الكوميديا في لبنان، وهي أسست له حضوراً واسعاً في هذا المجال. ثم كان دور”برجيس” في مسلسل “القفورة” مع هلا عون من أبرز محطاته، وقبله كان دور “حسون” في مسلسل حسون وعمو لطيف، وفي شباب 82 وغيرها من الأدوار التي أكدت على أن ميشال ثابت هو شخصية محورية في الكوميديا اللبنانية. شخصية دعيبس في أول ظهور لها على الشاشة أذهلت “وديع صافي”، فاتصل على الفور بالتلفزيون، داعياً ميشال إلى تابت تناول العشاء معه، وكان ذلك أول تعارف بينهما.
نجاح شخصية دعيبس جعلت البعض يعتقد أنّ ميشال ثابت لن يتكلم في الفن بعد اليوم خارج لغة كوميديا. ومن هؤلاء، الفنانة الراحلة هند ابي اللمع التي قالت لزوجها المخرج انطوان ريمي عندما علمت باختياره ثابت لدور “ضرغام”، في مسلسل فارس بني عياد: “كيف تسند شخصية الشرير إلى فنان كيف ما برمته يرشح ضحكاً؟” وكان المسلسل من بطولة إحسان صادق وسميرة بارودي “. وراهنت أبي اللمع حينها على فشل ميشال ثابت في هذا الدور؛ ولم نتتظر إلى نهاية المسلسل لتعترف له بأنّها أخطأت في تقديرها له. إذ قالت: “إنّ ميشال ثابت هو معهد قائم بذاته لتعليم تقنيات أدوار الشر”. هذا المعهد القائم بذاته ظل ردحاً من الزمن مصدر خوف شديد لتلميذات مدرسة البنات في محلة التحويطة. كن يختفين بلمح البصر عندما كن يشاهدنه ماراً امام مدرستهن وهو في طريقه إلى عمله. ذلك كان بعد عرض مسلسل “على طريق الشمس” من بطولة محمود سعيد ووفاء طربيه والفيرا يونس، والذي لعب فيه ميشال تابت دور “رعد”.
عام 1979 عاد ميشال تابت إلى الشاشة اللبنانية الكبيرة في فيلم “الممر الاخير” الذي مثل فيه دور زعيم مافيا. إصرار المخرج يوسف شرف الدين على أن تكون المشاهد طبيعية وواقعية دفعته إلى عدم استقدام “دوبلار” للمشاهد الخطرة، الأمر الذي كاد أن يودي بميشال تابت وفؤاد شرف الدين إلى الهلاك. ففي أثناء تدحرجه من جبل عالٍ، كُسرت رجل فؤاد شرف الدين وقضى في المستشفى مدة خمسة عشر يوماً. أمّا ميشال تابت، فقد كُسرت أضلاع صدره أثناء تصوير مشهد عراك مع شرف الدين، لكنّه تحامل على وجعه وأكمل حتى النهاية.
الكلام عن مسيرة ميشال تابت في السينما والتلفزيون، كمن يقرأ رواية فائقة المتعة أو يشاهد مسرحية تتمنى ألا يسدل الستار عليها أطلاقاً.
أخر تغريدات الإبداع على صفحة ميشال تابت، كانت مسلسل “الطاغية عام 2005 من تأليف مروان نجار.”الطاغية” الذي كان فيه ميشال تابت وحشاً من وحوش الشر بلا منازع، وهو يقول عنه إنّه جنة الدراما اللبنانية في العقد الاخير.
ميشال تابت الفنان المبدع كان أيضا نقيباً سابقاً للفنانيين في لبنان؛ أمضى في هذا المنصب 25 سنة متواصلة، حقق خلالها للفنانين إنجازات عدة، منها مسألة التنصيف الفني للمنتسبين وتحديد الأجور على هذا الأساس، وتحديد شروط الترشح والانتخاب لمركز النقيب وأعضاء النقابة، وإقامة بروتكولات تعاون مع معظم النقابات الفنية العربية والعالمية.
نبيل المقدم