يقف لبنان اليوم أمام محطة سياسية مفصلية، تتمثل بالمساعي الخارجية والداخلية لتشكيل حكومة “اتحاد وطني” تضم جميع الكتل السياسية الوازنة ضمن التركيبة اللّبنانية التقليدية. وذلك بعدما اجتاح “انفجار المرفأ” المشهد المحلّي المأزوم أصلًا، وأطاح بحكومة الرئيس حسان دياب بوصفها أوّل ضحية محلية على مذبح التسويات والتنازلات المطلوبة لإعادة تكوين السلطة، وتثبيت منطق التوازنات اللّبنانية والمصالح الإقليمية والدّولية المتقاطعة في هذه اللّحظة النوعية من تاريخ البلد.
هذا المعطى المحلّي بجسامته ومخاطره الوجودية على الدولة والكيان، أعاد خلط الأوراق والحسابات والسياسات الدّولية، ولا شك بأن تبديلًا ما طرأ على موقف “المجتمع الدّولي” بشقه الغربي الذي كان يعزل لبنان ويحاصره ويتركه وحيدًا يواجه التدهور والانهيار، دون الاكتراث لحجم أزماته المالية والاقتصادية والاجتماعية، حتى قبل يوم واحد من موعد “الانفجار الدامي”.
مسارعة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لزيارة لبنان، وكسر العزلة الدّولية عليه وعلى حزب الله وتسويق منطق “التفاهم الوطني”، تمثّل أولى المؤشرات على التغيير في الأسلوب الغربي، الذي فرضه هذا الانفجار.
في الحسابات الأوروبية، كان لبنان بعد المأساة يقف على حافة الفوضى وانهيار الدولة والمؤسسات واستئناف صدام أهلي متجذر في الصيغة اللبنانية.
مما يعني فتح المجال أمام الدول الطامحة لتوسيع دائرة نفوذها على حوض البحر المتوسط، لا سيما تركيا الدولة الإقليمية الصاعدة بقوة، والتي يعمل رئيسُها رجب طيب أردوغان على استعادة أمجادها “الإمبراطورية” وأدوارها التاريخية في المنطقة.
لذلك فإن الخوف من خسارة منطقة نفوذ فرنسية تقليدية وتكرار “النموذج اللّيبي” في لبنان شرقي المتوسط، والقلق من موجة نزوح جديدة تجاه أوروبا، هو السبب الأساس لسرعة التحرك الفرنسي، على قاعدة الحفاظ على “الأمن القومي” الأوروبي أمام التهديدات التي يبرع أردوغان في توظيفها لتطوير دوره وتوسيع نفوذه.
والحال هذه، يتابع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إطلالاته تجاه الملف اللّبناني بوتيرة توحي بالجدّية والإصرار، وذلك من خلال اتصالاته الدّولية والإقليمية والمحلّية المكثفة.
وفي حين لا يزال المشهد بحاجة إلى بعض المعطيات ليتضح أكثر، تقفز إلى الأذهان المزيد من الأسئلة المشروعة عن حقيقة “التفويض الأميركي” للفرنسيين في ظل انشغال الإدارة الأميركية الحالية بالانتخابات الرئاسية، وعن مدى هذا التفويض وحدوده وسقوفه التي يمكن أن ترتضيها واشنطن.
لذلك يترقب المجتمع السياسي اللّبناني زيارة وكيل وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية دايفيد هيل إلى بيروت اليوم، حيث من المتوقع أن تشكل فرصة لاستكشاف النوايا الأميركية، والبناء عليها لفهم طبيعة المرحلة وقراءة ملامح المستقبل القريب.
وفي هذا السياق، أعادت غالبية القوى اللّبنانية تموضعها السياسي وفق المعطيات الدّولية الجديدة. ففرملت قوى 14 آذار مسار استقالاتها الجماعية من مجلس النواب، مقابل استقالة الحكومة، وفي حين يلعب الرئيس نبيه بري دورًا محوريًا في تحضير “البيئة الداخلية” للتعامل مع الطرح الفرنسي، لا يزال حزب الله إيجابيًا تجاه منطق “التفاهم والتوافق”، وهو يدرك أن ترجمة هذه المفردات يكون عبر حكومة اتحاد وطني برئاسة سعد الحريري أو من يسميه الحريري ويمنحه الغطاء السياسي والطائفي.
وبالرغم من المؤشرات الإيجابية بشكل أوّلي، يقول العارفون بمسار الحلول والتسويات، أنّها لن تنطلق قبل صدور حكم المحكمة الدّولية في قضية الرئيس رفيق الحريري مطلع الأسبوع المقبل. وبعدها يصبح في الإمكان الانطلاق بالبحث الجدّي حول من يتولى رئاسة الحكومة مع شكلها وموازين القوى داخلها. وهذا مسار آخر قد لا يطول أو يأخذ الكثير من الوقت طالما يواصل الرئيس الفرنسي ضغوطاته على القوى السياسية بغية تذليل أي عقبات سياسية أو تقنية اعتدنا على مواجهتها أثناء تشكيل الحكومات في لبنان.. وللحديث تتمة..
نُهاد غنّام