أستراليا تخلّد ذكرى الأطفال اللّبنانيين الأربعة
الوالدة لـ"أحوال": سامحنا الجاني من كلِّ قلبنا ونحمله بصلاتنا
في الأيّام العادية يتسلّل الموت إلى حياتنا خاطفًا أحدًا ممن نحب، فنعيش اللّحظة وندرك فناء الحياة التي نغرق في بهرجتها ومشاكلها وتفاصيلها اليومية. وفي زمن جائحة كورونا، نشعر أنّ الموت يطارد أنفاسنا ليصطاد أرواحنا، يهجم بوقاحة غير آبه إن كان ضحيته كاهلًا أم شابًا أو إن افترس أكثر من وجه من عائلة واحدة. كأنّه لا يرتوي من أوجاعنا وأحزاننا، وكأنّ دموع قلوبنا لا تروي ظمأه. إلّا أنّ اللّاعدالة بين البشر تتحطّم أمام الموت الذي لا يميّز بين فقير وغني، متعلّم وأميّ أو ملحد ومؤمن.
لكن بعض الحوادث المفجعة تفاقم من تداعيات الموت المأساوية وتهزّ الإنسانية جمعاء، ومن هذه الحوادث مقتل الأطفال من أصل لبناني أنطوني (13 عامًا) وأنجلينا (12 عامًا) وسيينا (8 أعوام) عبدالله وقريبتهم الطفلة فيرونيك صقر (11 عامًا) وجرح ثلاثة من إخوتهم في سيدني في 1 شباط 2020 جراء صدمهم حين كانوا يسيرون على الممر المخصّص للمشاة متّجهين لشراء “البوظة” على يد رجل تحت تأثير المخدّرات والكحول فقد السيطرة على سيارته.
في لحظة انشطرت جزءين عائلة داني عبدالله وليلى جعجع المؤلفة من ستّة أطفال وخطف الموت أنطوني وأنجلينا وسيينا وإنتهك براءة طفولة شقيقين وشقيقة شهدت على الفاجعة التي أدخلت هي أيضًا إلى العناية الفائقة.
إلّا أنّ ما فاق وقع الكارثة الدموية – ليس فقط على المجتمعين الاسترالي واللّبناني بل على الإنسانية – هو موقف داني وليلى اللّذين أعلنا بلا تردّد مسامحة القاتل رغم هول المصيبة ووجع فقدان ذات من ذاتهما. موقف هزّ الوجدان وعكس فيضًا من الحبّ والسلام اللّذين يسكنان هذين الوالدين فتغلبا على مشاعر الحقد والانتقام التي قد تتملك أيًا منّا في هكذا ظروف.
في الذكرى السنوية الأولى، ها هي الحكومة الأسترالية تقدّر هذا البعد الإنساني في التسامح العابر لمحدودية البشر، فأعلنت 1 شباط تاريخ مقتل الأطفال الأربعة يومًا وطنيًا للتسامح والغفران وأطلقت عائلتا عبد الله وصقر ما بات يعرف بـ I forgive Day، عقب القداس الذي أُقيم لراحة نفسهم وحضره شخصيًا رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون وزوجته جيني ورئيس وزراء نيو ساوث ويلز غلاديس بريجيكليان.
“سامحنا الجاني من كل قلبنا ونحمله بصلاتنا دومًا ولا يمكن أن نتراجع عن المسامحة التي وإن كانت لا تمحي الحزن وندوب الوجع والاشتياق إلى الملائكة الثلاثة لكنّها تجعلنا نعيش بسلام مع حزننا”، تقول الوالدة ليلى عبدالله من سيدني لموقع “أحوال”.
تضيف: “كانت سنة لا توصف خسرت نصف أولادي في لحظة كما كنت حاملًا وخسرت جنيني. من أصعب المحطات فيها أعياد ميلادهم وعيد الأم وعيد الأب. ففي أعيادهم ذهبنا إلى مقابرهم حاملين قالب الحلوى و”البالونات” والورود حيث صلينا واحتفلنا وغنّينا لهم happy birthday. كذلك في عيد الأم والأب، أقمنا picnic في حديقة المقابر واحتفلنا معهم عبر الاتحاد بالصلاة. توجّهنا إلى المكان فقط لأنّ أجسادهم ترقد هناك أمّا أرواحهم فهي معنا أينما كنّا وتُرافقنا كطيفنا”.
تتابع ليلى: “كما احتفلنا بأعياد أشقائهم لينا وألكس ومايكل، فإن كانت الحياة قاسية بحقّهم لا يحق لنا حرمانهم من أعيادهم. إنّي إانشطرت نصفين: نصفي الأوّل ثلاثة ملائكة في السماء في أحضان يسوع ونصفي الآخر ثلاثة أطفال حقّهم عليّ أن أساعدهم على تخطّي هذه المأساة واستيعاب فقدان أشقائهم خصوصًا لينا التي توفى إخوتها أمامها وتعرّضت لضربة على الرأس استدعت مكوثها في المستشفى لأيّام. لو إن إرتداء الأسود والعزلة يعيدان لي أحبائي لكنت التزمت بذلك ما حييت. لا أريد أن أخسر ما تبقى لي من أطفال وما أستطيع القيام به لملائكتي هو الصلاة دومًا”.
تعتبر ليلى أنّهم نجحوا بتخليد ذكراهم عبر يوم المسامحة والغفران ودفع الناس إلى عيش المسامحة والمحبّة والتقرّب من يسوع الذي كان الأطفال يحبونه أكثر من ذاتهم حين توفوا وكانوا على استعداد للقائه، وتضيف: “أشعر بالفرح والسلام عبر تكريس الحكومة الأسترالية يوم 1 شباط للمسامحة والغفران ووقوف الأستراليين والجالية اللّبنانية إلى جانبنا، الكلّ مسيحيين ومسلمين كما جمعنا كافة الكنائس. هذا اليوم ردّ الناس على التوبة والإبمان. كما أنّ حضور رئيس حكومة أستراليا سكوت وزوجته جناز السنة لأولادي وفي اليوم التالي جناز فيرونيكا وفي اليوم الثالث حفل إطلاق يوم المسامحة والغفران وإعلانه الدعم المطلق لهذا المشروع أثر فيّ كثيرًا. بدأت أصداء هذا اليوم تتردّد في دول عدّة. كما أنّ مطران الموارنة في أستراليا أنطوان طربيه تواصل مع البطريرك الراعي من أجل العمل على تكريس هذا اليوم من قبل الدولة اللّبنانية أيضًا”.
بغصة تتحدّث ليلى عن لبنان وهي التي عاشت فيه طفولتها قبل ان تنتقل العائلة مطلع التسعينات إلى أستراليا، وتقول: “لبنان بلد القداسة وهو بحاجة لعيش المسامحة. انفجار بيروت وما يعيشه أهلنا من صعاب وغياب لرجال دولة يكونون مسؤولين فعلًا عنهم يحطم قلبي. نصلي من أجلهم ونسعى لدعمهم. المسامحة لا تنفي ضرورة تحقيق العدالة ومعرفة المرتكب. الحقد سمّ قاتل لنا ولعائلاتنا نحن نصلّي كي تأخذ العدالة مجراها ونسامح المرتكبين. إنّنا نستحق الحب والسلام في عائلاتنا، فلماذا نزرع الحقد والتشنّج لأولادنا؟ هذا الشعور لن يعيد لي ملائكتي الثلاثة بل سيحطم أولادي الباقين. في النهاية كلّنا سنموت ولا أحد أكبر من عدالة الله وهو يأخذ لنا حقّنا إن لم يكن في هذه الحياة في الحياة الثانية”.
وتختم ليلى: “أعمار أولادي الثلاثة مجموعها 33 سنة أي عمر المسيح. أولادي أصبحوا صيادي بشر يختارون أن يكونوا رسل محبة وسلام ومسامحة. حين تعيش السلام تجذب الناس إليك أمّا الانهيار والغضب فيجعل الناس تهرب منك. طالما أنا على قيد الحياة سأخصص كل يوم لتكريس المحبة والمسامحة على الأرض”.
تجربة داني وليلى عبدالله رسالة أممية سامية تؤكد أنّه مهما تملّك الشر والحقد بين البشر يبقى رجاء بأن ينتصر الخير وثقافة التسامح والمحبة والسلام.
جورج العاقوري