حي زاروب الطمليس: حرمان وشلل وبؤس
لا يشبه زاروب الطمليس، هذا الحي الواقع على الرصيف الجنوبي لمنطقة كورنيش المزرعة والتابع لمنطقة طريق الجديدة، إلا نفسه. هنا تتبدّل الصورة عمّا يمكن أن تشاهده أو تسمعه في المناطق المحيطة بهذا الحي والممتدة من كورنيش المزرعة إلى طريق الجديدة وصولاً إلى مستشفى المقاصد.
هنا، لا متاجر ولا مؤسسات تجارية ولا مصرفية؛ والأبنية الحديثة تكاد تكون قليلة. اسم “الطمليس”، والذي يعني باللغة التركية الزاروب الضيقة كان يُطلق في الأساس على أحد الاحياء في قلب العاصمة بيروت، والذي انتقل سكانه إلى المنطقة التي يوجد فيها الحي حالياً، وذلك في عشرينيات القرن الماضي، والتي كانت قبل ذلك خالية من السكان.
بيوت سراديب
في هذا الحي المكتظ يعيش الناس في بيوت ضيقة حُشروا فيها حشراً. هنا لا طرقات واسعة، ولا عجقة سير، ولا زمامير سيارات؛ بل أزقة ضيقة بالكاد تتسع لمرور سيارة واحدة. هنا مشهد لشبان شلّت الظروف الاقتصادية السيئة أعمالهم فدخلوا إلى عالم البطالة، وانتقلوا إلى الجلوس على الأرصفة يدخنون النارجيلة ويتفرسون في الوجوه التي تدخل إلى الحي. هنا معاناة بكل ما للكلمة من معنى، ومشهد فاضح لواقع الإهمال الرسمي لهذه المنطقة منذ عهد الاستقلال حتى اليوم.
“ياريت هيدا بيتنا”، هي أمنية تخرج بحرقة من قلب “رشاد” الفتى البالغ أربعة عشر عاماً كلما زار بيت زميل له في المدرسة يسكن في منطقة طريق “الجديدة”، وهو يعبّر عنها في حديثه لـ “أحوال” ؛ فالبيوت في “حي الطمليس” قديمة ومتهالكة، وهي أشبه بصناديق ضيقة، ويعود تاريخ بنائها إلى عشرينيات القرن الماضي، وهي بُنيت بشكل عشوائي وخارج أي مخطط عمراني.
من يدخل إلى بيوت هذا الحي لا يمكن إلاّ أن يصيبه الحزن على ساكنيها. فهي بالكاد يصلها ضوء النهار بسبب الأبنية العالية التي تحيط بها من جهة كورنيش المزرعة، ومن ناحية محيط مستشفى المقاصد. هذه البيوت لم تعرف الصيانة منذ تاريخ بنائها.”نحن نسكن في أقبية للتعذيب وليس في بيوت” يقول جمال أحد شباب الحي. ما يقوله جمال يمكن ملاحظته بسهولة من خلال التصدّع الظاهر على واجهات البيوت الخارجية، والذي جعل النش يأخذ مداه الأرحب على الجدران في الداخل.
بيوت حي الطمليس مؤلفة من غرفتين على الأكثر، وبعضها مؤلف من غرفة واحدة، ومعظمها غير مطلي، والغرف نفسها متعددة الإستعمالات… فهي تستخدم للنوم والجلوس وتناول الطعام. أما أثاثها فهو مصنوع من الخشب الرخيص، ومعظم سكان البيوت ينامون على فرش من الإسفنج.
مأساة حي الطمليس لا تقف عنده هذه الحدود؛ فشبكات الصرف الصحي تعاني من الإهتراء، ولا من يبالي من المسؤولين. مما جعل بيوت الحي مرتعا خصباً للجرذان بحسب ما يقول “رشاد “.
صيفية لاتشبه غيرها
وللكهرباء أيضا حصتها في زياد ة عذابات أهل الحي. فهي في معظم الأحيان مقطوعة بحسب ما تقول الحاجة “تقية” التي تسكن في هذا الحي منذ ولادتها قبل ستين عاماً.
بدورها، تؤيّد عفاف في حديثها ما تقوله جارتها “تقيه”، وهي تصرخ بوجه المسؤولين:” لماذا هذا الإنقطاع المستمر للكهرباء مع أننا ندفع الفواتير في مواعيدها؟ ومع ذلك فهي أحيانا كثيرة لا تصلنا أكثر من ثلاث ساعات في اليوم”. الإنقطاع المستمر للكهرباء عن بيوت حي الطمليس، وخاصة في فصل الصيف يجعل سكان بيوت هذا الحي يفترشون الأرصفة في فصل الصيف هرباً من الحرارة المرتفعة.
الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها لبنان منذ فترة، والتي ارتفعت وتيرتها في الفترة الأخيرة أرخت بثقلها على سكان حي الطمليس؛ فارتفعت نسبة البطالة خاصة بين الشباب، وأصبحت معظم العائلات تتكل في جزء من معيشتها على المساعدات الاجتماعية التي تأتي من بعض الجمعيات.
مع الطريق وضد الطريق
مشكلة أخرى من مشاكل الحي، والتي تفاعلت مؤخراً “يضيئ عليها “حسن”، وهو يسكن في شارع “لبس” التابع لحي الطمليس”. المشكلة تتمثل في بروز مشروع لشق طريق تأخذ معها معظم بيوت “الحي”، وهي تصل الحي “بكورنيش المزرعة”.
هذا المشروع من شأنه إن تم أن يجعل معظم سكان الحي بلا مأوى؛ مشروع الطريق هذا تقابله “محاسن” شقيقة حسن باعتراض شديد وهي تختصر الموضوع بقولها: “حالتنا المادية المزرية لا تسمح لنا باستئجار بيوت خارج الحي، وتضيف: كيف أتخلى عن بيتي وقيمة إيجاره لا تتجاوز الخمسين ألف ليرة شهرياً”؟
بدورها تخالف “إلهام”، “محاسن” في رأيها، وهي ترى أنّ مشروع شق الطريق في حال تم تنفيذه، فإنّه سيشكّل فرصة جدية للنهوض بالحي إلى جانب مشروع آخر يجري الحديث عنه، وهو مشروع “جامعة المقاصد”.
حالة الحي الخدماتية والاجتماعية المتردية تحمّل “الهام ” مسؤوليتها لنواب العاصمة، والذين يزورون الحي فقط في مواسم الانتخابات ويغدقون على سكانه الوعود البراقة. ولكن هذه الوعود لا تلبث أن تتبخر بعد ظهور نتائج الاقتراع.
أبناء حي الطمليس يمارسون مهناً مختلفة مثل الحدادة والنجارة والسنكرية؛ لكن البطالة جعلت لهم مهنة من نوع آخر وهي “أرغيلة دليفري”، حسب ما يقول “علي” وهو ابن الحي في حديثه.
رزق الله يا زمن
لا يمكن فهم ظروف نشأة هذا الحي، والذي يمتد بشكل ضيق ومتعرّج من زاروب الأيتام شرقاً حتى جامع عبد الناصر غرباً، ويفصل بينه وبين حي بربور خط كورنيش المزرعة، إلا بالعودة الى ظروف نشئته: “الكثير من معالم الحي تغيّرت بمرور الزمن “يقول أبو فادي ناصر البالغ من العمر ثمانين عاماً: “كانت المنطقة تُعرف قبلاً بإسم تلة زريق أو تلة أم الياس، وهي كانت عبارة عن كثبان رملية مرتفعة مما جعل العمران يبدأ في أسفل هذه الكثبان، والتي كانت متصلة بمنطقة المزرعة عبر حقول الصبير التي كانت تغطي المنطقة بكاملها قبل أن يفصل بينهما الكورنيش الذي تم افتتاحه في عهد الرئيس كميل شمعون.
“أبو فادي” يشير أيضاً إلى أنّ أحياء الطمليس كانت موصولة ببعضها البعض بواسطة ممرّات رملية ضيقة، قبل أن تتحوّل هذه الممرات إلى أدراج من الباطون لا تزال قائمة ويستخدمها أهل الحي في تنقلاتهم في داخله حتى اليوم.
أبو فادي يتذكر أيضا البستان الكبير الذي كان في المنطقة، والذي كان يمكله شخص يدعى “ألبر صليبا”؛ وكان مزروعاً بشتى أنواع الفواكه والخضار، وكان يأكل منه أهالي المزرعة والطريق الجديدة.
أبو فادي يترحّم أيضاً على أيام مضت كان الجميع من مسلمين ومسيحيين يعيشون في رابط وثيق من المحبة والاحترام.
فمسيحيو المنطقة كانوا يشاركون المسلمين صيامهم في رمضان والمسلمون كانوا يسبقون المسيحيين إلى الكنيسة لقرع الجرس في عيد مارالياس. كما أنّ النساء من الطائفتين كن يغطين شعرهن بالخمار(الاشارب) كدليل على الحشمة. أبو فادي يحنّ أيضاً إلى أيام جميلة مضت كان فيها فيها راتبه والبالغ مئة ليرة لبنانية وكان يكفي عائلته طوال الشهر.
حي قذائف وحصار
بعد شق الطريق، والذي عُرف بإسم كورنيش المزرعة إنعزل حي الطمليس عن عمقه الأساسي في المزرعة والنويري، وأصبح يشكّل حالة سكانية قائمة بنفسها. هذه العزلة هي التي فرضت على الحي وضعه لحالي؛ فبينما تنتشر على الرصيف الشمالي لكورنيش المزرعة الممتد من البربير حتى جامع عبد الناصر المحلات والمؤسسات التجارية، يبدو الحال مختلفاُ على الرصيف الجنوبي من شارع دار الايتام حتى جامع عبد الناصر حيث يقع حي الطمليس.
في حي الطمليس أسماء لعائلات كثيرة منها “الحارس، علوية، مشاقة، ملوك، الجمل” وغيرها، وهي تتوزّع على زواريب الحي، وأسماء هذه الزواريب هي:” الحارس، ولبس، وحي أم زكور.”
لشبان حي الطمليس محطات في التصدي للعدو الإسرائيلي في اجتياح 1982. فهم شاركوا في التصدي للعدو عند بوابة المتحف عندما حاول التقدم إلى داخل بيروت، ولكنه فشل ومُني بخسائر كبيرة؛ كما أن الإسرائيليين عندما دخلوا إلى بيروت تجنبوا الدخول إلى حي الطمليس خوفاً من عمليات ضدهم تأتيتهم من زواريبه الضيقة، فما كان منهم إلا أن قاموا بقصف الحي بالمدفعية الثقيلة ودمروا عدداً من بيوته عندما تعرّضوا لعملية قرب جامع عبد الناصر.
نبيل المقدم