اقتصاد

إمبراطورية “الحاكم بأمر المال” مهددة بالتدقيق الجنائي

هل ينجح التدقيق الجنائي في دخول دهاليز حصن بيت المال وهندساته؟

أمّا وقد أعطي الضوء الأخضر للتحقيق الجنائي وأُقر اقتراح القانون المعجّل المكرّر الرّامي إلى تعليق العمل بالسرية المصرفية لمدّة سنة، فإن حسابات مصرف لبنان باتت مشرّعة أمام التدقيق الجنائي، وعلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة التعاون مع شركة التدقيق سواء كانت “ألفاريز أند مارسال” أو أي شركة جديدة يتم الاتفاق معها. ولم يعد بمقدور سلامة إدارة الظهر أمام لوائح الأسئلة المقدّمة في متن التدقيقات المالية ولا التلطّي بأحكام قانون السرية المصرفية والنقد والتسليف.

ويشمل الكشف عن المعلومات لشركة التدقيق كل ما يتعلّق بالتزامات المصرف المركزي المالية وبأصوله وكافة المعلومات حول الهندسات المالية منذ العام 2015 والتقارير المالية لحسابات المصرف وعمليات التسوية والبيع والشراء والدفع والاستثمار والودائع لديه. وأيضاً العمليات التي نفّذها مصرف لبنان مع المصارف التجارية التي تحوّلت إلى آلة نهب المال العام تحقق الارباح الطائلة وتراكم الثروات لأصحابها وشركائهم في السلطة من خلال الأرباح والفوائد السخيّة على حساب الناس، وكشف حسابات هذه الأخيرة والحسابات الخارجية لمصرف لبنان. 

ومن المأمول أن يتم الكشف عن الجرائم المالية والمخالفات القانونية وعمليات الاثراء غير المشروع وشبكة الفساد الكبرى من النافذين، وتتبّع عملية النهب المنظّم لودائع العملة الصعبة وتحويلها الى حسابات كبار المساهمين والمودعين والنافذين. القانون الذي أقرّ في الجلسة التشريعية بات يحمل صفة الالزام وحاكم مصرف لبنان ملزم بتنفيذه فهل تُفتح أمامه حصون بيت المال؟.

رياض سلامة حاول في الأيام الماضي في إطلالاته الإعلامية المكثّفة أن يرد على التهم مبرئاً نفسه فرد على سؤال أين طارت أموال المودعين أنه “منذ عام حتى اليوم سحبت ودائع بقيمة 30 مليار دولار من المصارف اللبنانية وقد استعمل 20 مليار دولار منها لتغطية ديون ومحفظة الديون انخفضت بشكل مهم في القطاع المصرفي فقد كانت 55 مليار واصبحت اليوم 35 مليار وجزء آخر استعمل لشراء عقارات وجزء آخر آُخِذ نقداً”.

وأكّد سلامة، الذي ردَّ على الاتهامات الموجهة إليه بقول “عيب”!، أنّ أزمة السيولة بالدولار في المصارف اللبنانية بدأت تتراجع تدريجياً والمصرف المركزي أسلف الدولة ومعظم هذا الدين بالليرة اللبنانية، كاشفاً أنَّ أموال المودعين ليست في “المركزي”. وشدد على أنّ الأموال التي خرجت من البنك المركزي إلى الخارج هي للاستيراد فقط. ولم يتردد في إعلان تأييده للتدقيق الجنائي.

الرجل الأقوى في المنظومة اللبنانية والذي تتقاطع حوله الحمايات السياسية المختلفة، لقيَ إجماعاً لبنانياً وعالمياً على تحمل مسؤولية أقسى وأكبر انهيار شهده العمل المصرفي في العالم. وبحسب مراقبين فإنَّ “تغيير العقل المدبّر للساسة المالية التي أوصلت للانهيار الكبير يُعتبر “اللبنة” الأولى لإنجاح عملية التدقيق عبر إقالة حاكم مصرف لبنان، والإتيان بآخر يتصّف بالنزاهة والاستقلالية ونظافة الكف ليبدأ عهد جديد من الشفافية”.

سرّ صمود سلامة من سرّ تشبثّ الطبقة السياسية ودهاليزها التي أرست ركائزها في أعقاب اتفاق الطائف في العام 1990، ولم ينجح أي حراك في هزّ أركان عرشها حتى “ثورة 17 تشرين الأول”، الحركة الشعبية الأكبر ضد نظام الفساد. وما تبعها من انهيار مالي واقتصادي أفضى إلى تجويع وإفقار فئات كبيرة من الشعب اللبناني تمَّ تحميل سلامة جزءً كبيراً منه. وصار سلامة طريدةّ للثوار ولمجموعات كبيرة من من منظمات المجتمع المدني والحراك الشعبي.

منذ حوالي الاسبوعين استدعت القاضية غادة عون حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للمثول أمامها للاستيضاح منه في ملف الهدر الحاصل في الدولار المدعوم. وكان لخبر حضور سلامة الى مكتب القاضية عون التي استمعت على مدى ساعتين الى شهادته في ملفّ الدولار المدعوم والقروض السكنيّة، الوقع الكبير، باعتبار أن الحاكم بأمر المال “الماسي” لا يُسأل ولا يُستجوب ولا يُحاسب وأنَّه فوق القانون. 

الاستدعاء في هذه القضية ليس وحده ما يهزّ عرش حاكم امبراطورية المال، بل سمعته الدولية التي انقلبت على الصورة القديمة واكتشف الخارج وإعلامه أخيراً بعد ثلاثة عقود من التجميل والتأليه لاستثنائية سلامة رأت فيه حاكماً لحصن مائل لا بل مكسور ومفلس. 

 في تقارير لصحيفتي “وول ستريت جورنال” و”لوموند”، اتهمته الأخيرة بالفساد وبهندسات مالية مشبوهة أدّت لزيادة أصول مصرف لبنان بقيمة 6 مليارات دولار، وتحدثت عن رغبة فرنسية بتعيين حاكم مصرف جديد. فيما لوّحت “وول ستريت” التي كانت تُفرد صفحات لإنجازات سلامة في السابق بعقوبات أميركية محتملة عليه.

وفي تقرير صحيفة “لوموند”، أجراه الصحافي بنيامين بارت بعنوان “مصرف لبنان المركزي، دولة داخل دولة مبهمة لا يمكن المساس بها”. ويذكر التقرير ما ترجمته “تسعى المؤسسة النقدية، المشتبه في قيامها بتدبير هندسة مالية استفادت منها النخبة في دولة الأرز، إلى التهرب من التدقيق في حساباتها وممارساتها”. لافتاً إلى أنّ المانحين الدوليين للبنان يطالبون بالتدقيق الجنائي باعتباره عنصراً أساسياً لإنقاذ الوضع الاقتصادي”.

لبنانياً، يضع كل من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب ووزيرة العدل ماري كلود نجم رياض سلامة في دائرة الشبهات، ما يستوجب التحقيق معه لتثبيت التهم أو تنحيتها عنه.

صاحب أطول ولاية لحاكم بنك مركزي المعيّن منذ العام 1993، شغل من عمر مصرف لبنان 27 سنة متتالية هي الأطول في تاريخ المصرف الذي توالى على حكمه 6 آخرهم رياض سلامة الذي شغل مدة زمنية تُعادل ولاية أسلافه الخمسة مجتمعين.

منذ أسبوعين غرّد عضو تكتل لبنان القوي النائب انطوان بانو على “تويتر” قائلاً “ارفعوا الغطاء عن بارني مادوف لبنان ورؤوس كبيرة ستتدحرج وهياكل ستسقط”. ومادوف الأميركي وصِفَ بالمحتال رقم واحد، الخبير المالي البارز، وأب سوق السندات نجم حادثة إفلاس القرن، التي خلفت آلاف الضحايا في العالم، كان بنى أكبر هرم مالي من الصفر وأصبح نجم “وول ستريت” الأكثر نفوذاً إلى أن فقد ثروته وأصدقائه ووجد نفسه خلف قضبان السجن حيث يقضي ما تبقى من حياته بعد الحكم بسجنه 150 عاماً. 

فضيحة مادوف أو فضيحة “وول ستريت” التي تكشفت في العام 2008 في عز الركود الاقتصادي العالمي أظهرت احتيال الرئيس السابق لبورصة ناسداك الإلكترونية بمبلغ 50 مليار دولار في إدارة أكبر مخطط Ponzi في التاريخ لصناديق استثمارية تضم استثمارات كبار البنوك العالمية وأثرياء ومستثمرين عالميين. واللافت أنَّ الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون قالها صراحةّ خلال زيارته بيروت في أيلول الفائت “وكأنّ المصارف اللبنانية أُسِّسَت لخدمة مصالح كبار المسؤولين وحصل ما يسمى بسلسلة الـ”بونزي” ولم يعد أحداً يثق بالنظام المصرفي اللبناني”.

 

رانيا برو

رانيا برو

صحافية وكاتبة لبنانية. عملت في مؤسسات اعلامية لبنانية وعربية مكتوبة ومرئية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى