سردية الإنكار في سوريا …. وشماعة الذكاء الاصطناعي

في مشهد سوري جديد يعكس تحولات الخطاب الرسمي في التعامل مع الجرائم والانتهاكات، شهدت مدينة حلب محاكمة علنية لـ14 متهماً بارتكاب مجازر على الساحل السوري في مارس الماضي. لكن ما لفت الانتباه لم يكن فقط فظاعة الجرائم، بل الحجة التي استخدمها أحد المتهمين لإنكار ظهوره في تسجيلات مصورة: “الفيديو مفبرك باستخدام الذكاء الاصطناعي”.
و اليوم، ومع تطور أدوات التكنولوجيا، انتقل الخطاب الرسمي إلى مستوى جديد من الإنكار: الذكاء الاصطناعي أصبح المتهم الجديد.
هذا التحول لا يعكس فقط محاولة لتحديث أدوات التضليل، بل يكشف عن إدراك متأخر لقوة التكنولوجيا في تشكيل السرديات، سواء لتوثيق الحقيقة أو لطمسها. المفارقة أن هذه الذريعة ظهرت أيضاً في برامج حوارية رسمية، حيث اعتُبر أن بعض الجرائم “مفبركة بالذكاء الاصطناعي”، ما جعل من هذه الحجة “التريند الرسمي” الجديد لتبرير الانتهاكات.
وبالرغم أن المحاكمة وُصفت بأنها “علنية”، إلا أن تفاصيلها أثارت شكوكاً واسعة حول جديتها. سبعة من المتهمين ينتمون إلى وزارة الدفاع الحالية، والسبعة الآخرون عسكريون سابقون. بعضهم ظهر بوضوح في تسجيلات توثق عمليات قتل واعتداء، لكنهم أنكروا ذلك، بل إن أحدهم قال إن الفيديو مفبرك رغم اعترافه السابق.
أحد المتهمين اعترف بتنفيذ عمليات قتل “بأوامر قائده”، ولدى سؤاله عن اسمه أجاب: “أبو كرمو الحمصي… ما بعرف اسمه الحقيقي”. هذه الإجابة تسلط الضوء على مشكلة أعمق في البنية الأمنية السورية، حيث تنتشر الأسماء المستعارة، ما يجعل تتبع المسؤوليات الجنائية أمراً شبه مستحيل .
والمفارقة أن الذكاء الاصطناعي، الذي يُستخدم اليوم كذريعة لنفي التهم، قد يكون غداً الأداة الأهم في ملاحقة مرتكبي الجرائم. فالحرب السورية تُعد من أكثر الحروب توثيقاً في التاريخ، بفضل الهواتف الذكية ومنصات التواصل. ملايين المواد المصورة باتت متاحة، والذكاء الاصطناعي قادر على تحليلها وربطها بالأشخاص والأماكن، كما تشير تقارير دولية مثل تقرير وول ستريت جورنال.
لم تمر هذه المحاكمة دون ردود فعل ساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي. تعليقات مثل: “خلص! كل شي صار بالحرب AI… وكل شي صار بالمعتقلات فوتوشوب”، و*”من فيديوهات مصوّرة في قطر، إلى جرائم مؤلفة بالذكاء الاصطناعي… وما زال الجاني مجهولاً”*، تعكس وعياً جمعياً يرفض التلاعب بالحقائق، ويقاوم محاولات طمس الذاكرة الجمعية عبر خطاب رسمي متقلب.
وبما أننا اليوم في عصر تتقاطع فيه التكنولوجيا مع العدالة، لم تعد سرديات الإنكار التقليدية تقنع أحداً. الذكاء الاصطناعي، الذي يُستخدم اليوم كستار دخاني، قد يتحول إلى مرآة كاشفة لا ترحم. وبينما تحاول بعض الأنظمة استخدامه لتبرير الجرائم، فإن التاريخ الرقمي لا يُمحى بسهولة، والعدالة قد تأتي من حيث لا يتوقع أحد.



