من أعداء الأمس إلى شركاء اليوم: زيارة الشرع إلى موسكو ومعادلات الحكم في سوريا الجديدة
بقلم: د. هشام الأعور

بعد مرور عشرة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، تتجه الأنظار مجددًا إلى الشمال السوري حيث برز أحمد الشرع، المعروف باسم “الجولاني”، في واجهة المشهد السياسي بعد زيارته المفاجئة إلى موسكو. هذه الزيارة، التي جاءت بعد سنوات من العداء بين روسيا وهيئة تحرير الشام، تفتح الباب واسعًا أمام سؤال جوهري: ماذا يعني أن يتحول أعداء الأمس إلى شركاء اليوم؟
من الواضح أن موسكو، التي فقدت نفوذها المباشر في دمشق بعد انهيار النظام السابق وتآكل مواقعها العسكرية والاقتصادية، تحاول اليوم إعادة تموضعها في سوريا من خلال قنوات جديدة أكثر براغماتية. أحمد الشرع، الذي يقدّم نفسه زعيمًا لمرحلة انتقالية شمالية تحكمها براغماتية الواقع أكثر من شعارات الثورة، يدرك أن بقاءه في المعادلة الإقليمية والدولية يمر عبر تطبيع تدريجي مع القوى الكبرى. لقد حمل إلى موسكو خطابًا مزدوجًا: من جهة يُطمئن الروس إلى أن مرحلة الإسلام الجهادي انتهت، ومن جهة أخرى يرسل رسالة إلى الداخل السوري بأنه أصبح رقمًا صعبًا لا يمكن تجاوزه في أي تسوية قادمة.
لكن هذه الزيارة تكشف أكثر من مجرد تبدل في التحالفات؛ إنها تعبير عن التحول العميق في منطق الثورة السورية نفسها. فبعد عقد من الدمار والاقتتال، وبعد أن تحولت الثورة السلمية إلى ساحة مفتوحة للطائفية والتدخلات الإقليمية، لم يعد شعار “إسقاط النظام” هو الهدف المركزي، بل البحث عن صيغة تحفظ الحد الأدنى من الوجود السوري الموحد. في هذا السياق، تراجعت الرؤى الوطنية الجامعة لصالح مشاريع مناطقية وفيدرالية تغلفها شعارات واقعية عن الحكم الذاتي والإدارة المحلية.
الإنجاز الحقيقي للثورة السورية لا يُقاس اليوم بعدد المدن المحررة أو الأنظمة التي سقطت، بل في كسر احتكار السلطة وخلق وعي جمعي جديد لدى السوريين بأن زمن الديكتاتور الواحد قد انتهى. ومع ذلك، فإن هذا الوعي ما زال مهددًا بالضياع وسط صراعات النفوذ وغياب قيادة وطنية موحدة. لقد أنتجت الفوضى قوى أمر واقع متصارعة، بعضها مدعوم من أنقرة، وبعضها من طهران، وبعضها الآخر من موسكو أو واشنطن. أما الغرب، فبدا مصابًا بعمى دبلوماسي عميق، إذ لا يميّز بين دعم الاستقرار ودعم الاستبداد بصيغ جديدة.
الانفتاح الخارجي على النظام الجديد في دمشق أو على سلطات الأمر الواقع في الشمال والشرق يعكس رغبة دولية في تثبيت الحدود الجغرافية الحالية لا أكثر. الدعم المقدم تحت شعار إعادة الإعمار أو “تعزيز الحكم المحلي” لا يصب في مصلحة الداخل السوري بقدر ما يهدف إلى منع الانهيار الكامل وتثبيت مناطق النفوذ لكل طرف. النتيجة أن السوريين باتوا بين مطرقة التدخلات الخارجية وسندان الانقسامات الداخلية، بينما تزداد قناعة المجتمع الدولي بأن الحل الوحيد الممكن هو إدارة الأزمات لا حلّها.
أما مستقبل سوريا، فهو أقرب إلى نموذج فيدرالي واقعي غير معلن، يتقاسم فيه اللاعبون المحليون والإقليميون السيطرة على الجغرافيا السورية وفق توازنات الأمر الواقع. الجنوب، عمليًا، بات ضمن نطاق التأثير الإسرائيلي، لا من خلال الاحتلال المباشر بل عبر شبكة من الترتيبات الأمنية والسياسية غير المعلنة. الشمال يعيش على الإيقاع التركي، والشرق يدار من قبل القوى الكردية برعاية أميركية، فيما تحاول موسكو إيجاد موطئ قدم في إدلب عبر بوابة الشرع والجولاني.
إن مستقبل النظام السياسي في سوريا ينطلق من إدراك أن البلاد دخلت مرحلة “ما بعد الدولة المركزية”. لن يكون هناك حاكم واحد ولا عاصمة واحدة تجمع القرار. بل شبكة من الكيانات الإدارية والسياسية تتصل بعلاقات مع الخارج أكثر مما تتصل فيما بينها. ومع ذلك، يمكن لهذا الشكل الهجين أن يشكل قاعدة انتقالية نحو تسوية أوسع، إذا ما استطاعت الكانتونات الجديدة –ومنها أحمد الشرع– أن تتحرر من إرث الحرب، وأن تبني مشروع حكم يوازن بين الهوية الوطنية ومتطلبات الواقعية السياسية. سوريا الجديدة لن تعود كما كانت، لكنها قد تنجو إذا قبل السوريون بأن وحدتهم المقبلة لن تكون بالضرورة وحدة الجغرافيا، بل وحدة الإرادة في البقاء.