
بالتزامن مع الجدل الذي أثاره المؤتمر الصحافي الذي عقده عضو لجنة «السلم الأهلي» حسن صوفان، والمتحدّث الرسمي باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا، عقب الإفراج عن نحو 300 عنصر في الجيش السابق تمّ اعتقالهم عقب سقوط نظام بشار الأسد، اندلعت موجة عنف جديدة في المنطقة الوسطى في سوريا. ويأتي ذلك في ظلّ صعود مستمرّ لفصائل متشدّدة أعلنت بدء عمليات «انتقامية» ضدّ الأقلّيات، وبشكل خاص الطائفة العلوية التي يجري تكفير أبنائها علناً.
وكانت موجات العنف اتّخذت شكلاً جديداً بعد مجازر السادس من آذار الماضي التي راح ضحيّتها مئات المواطنين، بينهم نساء وأطفال، من الطائفة العلوية في الساحل السوري، غربي سوريا، وحمص وحماة، وسط البلاد، وتسبّبت بردود أفعال عالمية مستنكرة. إذ اعتمد المنخرطون في تلك الموجات على عمليات قتل فردية، وإعدامات متتالية، بشكل يضمن استمرار هذه العمليات من دون لفت أنظار المجتمع الدولي.
وخلال الشهر الماضي، طاولت الإعدامات الميدانية وعمليات الاغتيال، التي يتم نسبها إلى «مجهولين»، عشرات المدنيّين الذين تمّ اختطاف بعضهم من منزله أو أثناء عودته من عمله، فيما بعضهم الآخر قتلوا داخل حافلات نقل عامة (كما جرى في ريف حماة)، من دون أن تفارق السلطات صمتها حيال ذلك. وشهدت آخرَ موجات العنف مدينةُ تلكلخ في ريف حمص، إذ قُتل مدنيان وأصيب آخران، جرّاء هجمات انتقامية أعلن قائد الأمن الداخلي في محافظة حمص، مرهف النعسان، أنّها جاءت بعد رصد «محاولات عبر منصات التواصل الاجتماعي لتأجيج الشارع، وتحريض الرأي العام بدوافع الثأر والانتقام»، معلناً أنه تمّ التواصل مع الوجهاء في المنطقة لضبط الوضع واحتواء التوتّر.
شهدت مدينة تلكلخ في ريف حمص آخرَ موجات العنف
وفي محاولة لمحاصرة هذه العمليات، أصدر مجلس الإفتاء في سوريا، في وقت سابق، بياناً أعلن عبره «تحريم الثأر»، داعياً إلى «استيفاء الحقوق عبر المؤسسات الشرعية المختصة بعيداً عن التحريض الشعبي». كما شدّد على أنّ «الاعتداء على الدماء والأعراض والأموال من أعظم أنواع الظلم». وفي حين بارك المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، ذلك الإعلان، لم تُحدث خطوة المجلس أي فرق على الأرض، في ظل تنامي التيارات المتشدّدة، التي باتت تملك سلطة غير مسبوقة في سوريا.
وفي هذا الإطار، أعلنت جماعة تطلق على نفسها اسم «سرايا أنصار السنّة»، وكشفت عن تأسيسها في شهر شباط الماضي، استمرار عمليات «الانتقام الطائفي» و«مهاجمة النصيرية والروافض»، بعد أن تبنّت هجمات عديدة وقعت في حمص وحماة، أبرزها تلك التي تعرّضت لها بلدة أرزة في ريف حماة، وراح ضحيّتها نحو 10 مدنيّين. وأكّد المسؤول الشرعي في الجماعة، والذي يُطلِق على نفسه اسم «أبو الفتح الشامي»، استمرار عمليات جماعته، الأمر الذي يكرّس، على ما يبدو، حلّة انقسام بدأت تتبلور، عمودياً وأفقياً، في هيكلية «هيئة تحرير الشام» التي تحكم سوريا في الوقت الحالي، والتي أعلنت عن حلّ نفسها وتشكيل وزارة للدفاع.
وفي وقت تتابع فيه السلطات صمتها حيال استمرار الهجمات الطائفية ضدّ المدنيّين من الطائفة العلوية، أعلنت جماعة جديدة تُطلق على نفسها اسم «أحرار الثورة السورية» في جبلة، بدء عمليات انتقامية، قالت إنها ستشمل جميع المحافظات السورية، وتنضمّ هذه الجماعة إلى ركب فصائل باتت تتبنّى بشكل صريح ومعلن، شنّ عمليات قتل خارج إطار الدولة، التي تعاني أصلاً حالة هشاشة أمنيّة غير مسبوقة في ظلّ امتلاك التيّارات المتشدّدة لحضور كبير في مؤسّساتها الأمنية، واحتوائها لعناصرها التي شاركت في جرائم انتقامية تم توثيقها.
واللّافت في نشاط الجماعات المتشدّدة، تركيزها في الأيام الأخيرة على الأشخاص الذين تمّ الإفراج عنهم، بعد أن أكّدت «لجنة السلم الأهلي» ووزارة الداخلية السورية، أنّ هؤلاء لم يتورّطوا في الدماء؛ إذ تمّ، حتى الآن، اغتيال 6 أشخاص من المفرج عنهم، بينهم عقيدان في حمص، وضابط و3 عناصر، الأمر الذي يشكّل تهديداً مباشراً للمطلق سراحهم من جهة، وتهديداً آخر لحياة المعتقلين الذين من المنتظر الإفراج عنهم لاحقاً، علماً أنه لا يزال هناك الآلاف في سجون إدلب وحماة، مِن مَن قاموا بتسليم أنفسهم عقب سقوط النظام. ومن شأن ذلك أن يضع السلطات الانتقالية أمام اختبار حقيقي غير مسبوق مع جمهورها وعناصرها والجماعات التابعة لها، خصوصاً إذا ما استمرّت في التزام الصمت حيال هذه الجرائم، كما حصل سابقاً.