
تدخل التشكيلات القضائية المرتقبة في لبنان مرحلة بالغة الأهمية، وسط ترقّب داخلي وخارجي لما ستؤول إليه هذه الخطوة، التي تُعد من أبرز ملامح الإصلاح المؤسساتي في البلاد. فبحسب مرجع قضائي رفيع المستوى، لم يعد من المقبول أن تبقى السلطة القضائية رهينة الشلل، أو أسيرة التجاذبات، لأن ما يجري اليوم يتعدى التشكيلات بحد ذاتها، ليشكل امتحانًا حقيقيًا لقدرة الدولة على النهوض من انهيارها المؤسساتي، وإثبات صدق نيتها في تطبيق الإصلاحات التي يطالب بها المجتمع الدولي.
وقال المرجع: القضاء ليس تفصيلاً إداريًا في بنية الدولة، بل أحد أعمدتها الأساسية. لا دولة من دون قضاء، ولا عدالة من دون استقلال، ولا مؤسسات من دون قضاة يتمتعون بالثقة والهيبة والقدرة. والخطر الأكبر على القضاء ليس فقط في عدم إنجاز التشكيلات، بل في إبقائه ساحةً لتصفية الحسابات، كما جرى في العهد السابق، حين جرى استغلال مؤسسات الدولة بما فيها السلطة القضائية، في سبيل تعزيز سلطة الفرد.
ورغم هذا المسار الانحداري، وقف رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، ومعه النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار، سداً منيعاً في وجه كل محاولات تدمير القضاء أو إخضاعه. وبفضل تمسكهما بالقواعد القانونية والدستورية، ما زالت السلطة القضائية تحاول النهوض رغم الإحباط، وتسعى بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى، إلى استعادة دورها المركزي في بنية الدولة.
وفي هذا السياق، تفيد المعطيات أن الاجتماعات التي عقدها مجلس القضاء في الآونة الأخيرة قطعت شوطًا كبيرًا نحو إنجاز واحدة من أضخم التشكيلات القضائية التي يشهدها لبنان، من حيث حجم المناقلات وشمولها لكافة قصور العدل في مختلف المحافظات، بحيث يُنتظر أن تعيد هذه التغييرات الحيوية إلى جسم العدالة، وتكسر حالة الجمود الطويلة.
وبحسب المعلومات المتداولة، سيتم تثبيت القاضي سامي صادر في مركز المدعي العام في جبل لبنان، وتعيين القاضية سمرندا نصار رئيسة للهيئة الاتهامية في جبل لبنان، وتكليف القاضي كلود غانم بمنصب مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، وتعيين القاضي فريد عجيب قاضيًا للتحقيق العسكري الأول. كذلك يُطرح اسم القاضي زياد أبو حيدر لتولي مركز قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان، فيما يتقدم اسم القاضي رجا حاموش لمنصب النائب العام الاستئنافي في بيروت.
أما مركز قاضي التحقيق الأول في بيروت، فيشهد نقاشًا بين اسمين هما القاضي ربيع حسامي والقاضي أحمد رامي الحاج، مع ترجيح كفة حسامي. كما يُطرح اسم القاضي جوني القزي لتولي رئاسة هيئة القضايا في وزارة العدل، في حين يُتوقع أن تبقى القاضية جويل فواز، زوجة وزير العدل السابق، في منصبها كرئيسة لهيئة التشريع.
ويشير المرجع القضائي إلى أن هذه التشكيلات المنتظرة ليست مجرد مناصب أو مواقع، بل إعادة ترتيب للبنية القضائية بما يضمن الانسجام بين المراكز والمواقع والمهام، بعيدًا عن الحسابات السياسية. وهي أيضًا اختبار للسلطة السياسية، التي إن عرقلت إصدار مرسوم التشكيلات، فإنها ستثبت من جديد أن نيتها الإصلاحية شكلية، وأن التدخل في القضاء ما زال حاضرًا في العقلية الحاكمة.
وفي هذا الإطار، يبرز الموقف المسؤول لرئيس الجمهورية العماد جوزيف عون، الذي التزم الصمت الإيجابي حيال التشكيلات، وترك لمجلس القضاء الأعلى كامل الحرية في إعدادها وإقرارها. وهو بذلك، لا يتصرف فقط كضامن للدستور، بل كحامٍ حقيقي لمبدأ فصل السلطات واستقلال القضاء، في مرحلة يُعد هذا الاستقلال فيها أساسًا لعودة ثقة الناس بمؤسسات الدولة.
من هنا، يقول المرجع إن إنجاز التشكيلات القضائية اليوم، بعيدًا عن الاعتبارات السياسية والطائفية، هو فعل تأسيسي لا يقل أهمية عن انتخاب رئيس للجمهورية، أو تشكيل حكومة. إنه الخطوة الأولى نحو جمهورية القانون. وما لم يُفك الحصار عن الجسم القضائي، ويُترك ليحكم باسم العدالة لا باسم المصالح، ستبقى الدولة بلا هيبة، والناس بلا ثقة، والقانون بلا روح.
لقد آن الأوان لأن يُسمح للقضاء أن يقوم بدوره. فالدولة تُبنى عندما يُبنى قضاؤها، وحين يعود ميزان العدالة إلى التوازن، تبدأ رحلة الخروج من النفق.