كيف يموّل عياش محكمة الحريري الخاصة؟
لا يمكن فصل قرارات وأحكام المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري عن مسار الأحداث في لبنان والصراع الدائر على الساحتين الإقليمية والدولية، بين المحورين الأميركي – الأوروبي – الخليجي من جهة، والإيراني الروسي السوري وحلفائهم في المنطقة من جهة ثانية.
فتوقيت صدور القرارات بـ”التقسيط المملّ” على مدار الأعوام الـ15 التي استغرقتها المحكمة لإصدار قرارها الظني وأحكامها، يُثير تساؤلات عدة عن الخلفيات والأهداف؛ سيّما وأنّ المحكمة الخاصة بلبنان فاقدة للشرعية الداخلية الشعبية والقانونية والدستورية، كونها لم تنَل موافقة المجلس النيابي وهُرّبت في ليلة ظلماء وفي حكومة “بتراء”، كما وصفها رئيس المجلس النيابي نبيه بري ذات مرة__ حيث كان الرئيس فؤاد السنيورة في سدة رئاستها.
كما لم تُوقّع الإتفاقية الدولية حينها وفق الأصول الدستورية، إذ تم استبعاد رئيس الجمهورية وقتذاك العماد إيميل لحود عن المفاوضة وتوقيع الإتفاقية الدولية التي تخضع لصلاحيات رئيس الجمهورية حصراً، وبالتالي اصبحت تستمد المحكمة شرعيتها من مجلس الأمن الدولي فقط.
وبعد حوالي 4 شهور على قرار المحكمة بإدانة العنصر في حزب الله سليم عياش في 18 آب الماضي بالتورّط في اغتيال الحريري، أصدرت المحكمة الجمعة حكمها وقضى بخمسة أحكام بالسجن مدى الحياة على عياش.
ما هدف هذا الحكم وما الجديد الذي حمله؟
أشار المتخصص بالعلوم الجنائية وحقوق الانسان د. عمر نشابه لـ”أحوال” إلى أنّ “قرار المحكمة لم يحمل مفاجآت جديدة، وكان متوقعاً كونه صدر منذ أشهر؛ وأُضيف عليه اليوم فقط نوع ومدة العقوبة”، موضحاً أنه من الطبيعي أن يصدر الحكم بالسجن المؤبد كون نظام المحكمة يخلو من عقوبة الإعدام”.
أما اللافت بحسب نشابه، فهو الرأي الذي أضافه رئيس غرفة الدرجة الأولى في المحكمة القاضي راي في ختام إدلائه بالقرار، وهو تذكيره بخطابات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الداعمة للأشخاص الذين اتهمتهم المحكمة، وبذلك أوحى القاضي بأنّ السيد نصرالله يؤمّن الغطاء والحماية للمتهمين.
وأكد نشابه أنّ المحكمة فقدت صدقيتها وثقة اللبنانيين بها منذ وقت طويل، ولذلك تسعى الجهات القيّمة عليها لتأمين التمويل للإستمرار في عملها؛ ولبنان ملزم بدفع نصف تكاليف المحكمة والمقدّرة بملايين الدولارات. لذلك تحاول المحكمة إظهار أنها تعمل وتصدر قرارات وتسير باتجاه العدالة لكي يبقى تمويلها قائماً.
وأكد نشابة أنّ “تجربة المحكمة الدولية في قضية الحريري سقطت منذ نشوئها، لأن الإتفاقية الموقّعة بين الحكومة اللبنانية آنذاك والأمم المتحدة، لم تنل موافقة مجلس النواب؛ وبالتالي لا تملك الشرعية الشعبية، بل تملك فقط الشرعية الدولية انطلاقاً من قرار مجلس الأمن”. ولفت إلى أنّ مطالبة بعض الجهات السياسية في لبنان بمحكمة دولية خاصة في جريمة المرفأ بلا قيمة قانونية، لأن أي ضم لجرائم إلى المحكمة الدولية يحتاج إلى قرار من مجلس الأمن الدولي الذي يحتاج بدوره إلى توافق دولي، وهذا غير متوفر بسبب الرفض الصيني والروسي؛ وبالتالي المطالبة بهذا الأمر يندرج في إطار المزايدات الكلامية.
توقيت مشبوه
وفي عملية تعقّب ورصد بسيطة لقرارات المحكمة منذ نشوئها حتى الآن، يمكن ملاحظة بأنّ المحكمة ليست سوى سلاح سياسي يُستخدم ضد كل معارض للسياسة الأميركية، وهذا ما حصل في السودان وغيرها. فقرارات المحكمة وأحكامها لطالما أتت “غبّ الطلب” السياسي الدولي، وفي توقيت مشبوه يتزامن مع حاجة سياسية ما. ومن المفيد التذكير بأن أول قرار صدر عن المحكمة باتهام أربعة من عناصر حزب الله تم تسريبه عبر صحيفة “دير شبيغل” الألمانية والمعروفة الصلة بالموساد الإسرائيلي؛ وما تأجيل القرار الظني من 8 آب الماضي إلى 18 آب بسبب إنفجار مرفأ بيروت إلا دليلاً إضافياً على عملية التسييس.
فالحكم الغيابي على عياش سيمنح المحكمة الإستمرارية وبالتالي استيفاء أموالأً باهظة على قضاتها وموظفيها، على اعتبار أنّ دورها لم ينتهِ؛ بل ستعيش المحكمة طيلة السنوات المقبلة على تقفي أثر عياش لاعتقاله ومحاكمته وجاهياً، فيصبح عياش هو سبب تمويل المحكمة واستمراريتها.
وربط أستاذ العلوم السياسية الشيخ صادق النابلسي بين قرارات المحكمة، وبين الصراع على الساحة اللبنانية والحملة المركزة والمستمرة على حزب الله والتيار الوطني الحر، وتصعيد الضغوط باستخدام كافة الأوراق القضائية والسياسية والأمنية والاقتصادية والمالية للي ذراع حزب الله، وإخضاع لبنان للشروط والإملاءات الأميركية، وأولها ملف ترسيم الحدود البحرية والصراع حول استثمار النفط والغاز وخريطة أنابيب الغاز بين شرق المتوسط وأوروبا؛ كاشفاً عن غرفة عمليات في سفارات في لبنان تضم شخصيات سياسية وأمنية وإعلامية تدير المعركة والحرب ضد حزب الله والمقاومة.
ولفت النابلسي لـ”أحوال” إلى أنّ “الحكم الصادر عن المحكمة يهدف إلى تثبيت تورّط حزب الله بشكلٍ أو بآخر أو اتهام الحزب بالتغطية وحماية المتهمين كحد أدنى”. وشدّد على أن الحكم يندرج في إطار الضغط النفسي والسياسي على حلفاء حزب الله، والرأي العام اللبناني، سيّما الشارع المسيحي والسني لفك التحالف بين الحزب والتيار الوطني الحر، وتعميق الشرخ بين الحزب والبيئة السنية خاصة الرئيس الحريري.
واعتبر الدكتور صادق النابلسي إلى أنّ “اتهام أحد أعضاء الحزب في توقيت مشبوه هو للإيحاء بأن الحزب مسؤول عن تدمير لبنان، إن عبر اغتيال الحريري أو تفجير مرفأ بيروت، بالإضافة إلى تحميله مسؤولية الإنهيار المالي والاقتصادي في لبنان، خصوصاً وأنّ المحكمة تعرف أنه لا يمكن تنفيذ القرار في لبنان لصعوبة اعتقال عياش”.
وفيما أوضحت مصادر قضائية لـ”أحوال” أن السلطات اللبنانية ملزمة بتطبيق حكم المحكمة، وذلك باعتقال عياش وتسليمه للمحكمة لتنفيذ الحكم عليه، لفتت إلى أن للسلطات اللبنانية تعليمات سابقة ومنذ صدور القرار الظني باعتقال عياش أينما وُجد. لكن النابلسي أكد بأن حزب الله لن ولم يغير موقفه من قضية المحكمة ولا تعنيه قراراتها ولا أحكامها، ولن يتعامل معها بأي شكل من الأشكال كما ولن يعلّق على الحكم؛ وبالتالي لن يستطيع أحد أن يمس شعرة من رأس عياش أو أي من المجاهدين.
الحريري ملزم خارجياً بمواكبة الحكم
هذا، وأكد الرئيس سعد الحريري في تصريح مقتضب تأييده للحكم بقوله: “العدالة الدولية أصدرت حكمها في قضية الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، والعقوبة التي أُنزلت بسليم عياش يجب وضعها موضع التنفيذ، وعلى السلطات القضائية والأمنية اللبنانية القيام بواجبها في هذا الخصوص”.
في المقابل، لفت النابلسي إلى أن “الحريري مضطر وتحت الضغوط الدولية لمواكبة حكم المحكمة بتصاريح سياسية خجولة لاحتواء الحنق الأميركي – السعودي من سياساته”. وشدّد على أن أحد أهداف المحكمة تخريب العلاقة بين الحزب والحريري سيّما وأن الأميركيين فرضوا على الحريري إقصاء الحزب عن أي حكومة يترأسها؛ إلى ذلك، أكد النابلسي أنّ الهدف هو تعزيز الإحتقان في الشارع السني ضد حزب الله في إطار تأليب السنة على الحزب “وفق السعي الأميركي – السعودي”.
محمد حمية