هل يتعلم اللبناني: مقاتلو الحرب الأهلية.. صانعو سلام؟
لنفترض أننا الآن في العام 1975 أو 1982 أو في ظلال أي فتنة لبنانية متكررة، فأين يمكننا أن نجد مثلاً أسعد شفتري، زياد صعب، أحمد مطر، بدري أبو ذياب، مهى جبور،،،، وغيرهم كثر من مقاتلي الحروب الأهلية اللبنانية المتتالية؟.
هي تجربة تستحق التوقف عندها: مجموعة من المقاتلين السابقين من كل الأحزاب والأطراف وقد جمعتهم آلام وتجارب الحرب الأهلية فقرروا أن يعيدوا قراءة ذاك الماضي بعيون المستقبل: يمكن حل كل القضايا دون اللجوء الى العنف، ندوب الحرب هشمت أجسادنا وعذبت نفوسنا… تعالوا نعالجها بما نستطيع وأولها الاعتراف والكف عن تكرار أخطاء الماضي.
إشكالية أولى: هل نحن السبب أم النظام؟ مجرمون أم ضحايا؟
في مكتب جمعية “محاربون من أجل السلام” في مار الياس خلية عمل لا تهدأ، أفكار ونقاشات ومشاريع وجلسات حوارية، ورغم أن الفريق بمعظمه يتكوّن من رجال ونساء قد تجاوزت أعمارهم العقد الخامس، إلا أن حيوية اندفاعهم لافتة.
هنا مثلاً بدري ابو ذياب (القيادي العسكري السابق في الحزب الاشتراكي) يستفيض بشرح آخر قراءاته المعمقة عن معوقات خروج المجتمع اللبناني من مستنقع ودوامة العنف المبني على وقود الطائفية”، ليرد الباحث أحمد مطر، ابن بعلبك والقيادي الفتحاوي السابق، أن “حطب الداخل يجد شرارة الخارج دائماً بانتظاره، وسؤالنا دوماً كيف نسحب عوامل التفجير الداخلية كي نقطع الطريق على الخارج؟”.
وفي خضم هذه الزحمة يبقى هاجس الجميع: كيف نوقف صناعة الضحايا الجدد؟.
تدرك المجموعة جيداً أنه بالقدر الذي اشتهر به أفرادها في الحرب الأهلية بالبطش والقسوة وسفك الدماء، بالمحصلة هم ضحايا لكل هذه المنظومة من الموروثات الى تركيبة النظام والتدخلات الخارجية.. الخ.
المجموعة تعرّف عن نفسها بالنقاط التالية:
“نحن مجموعة من المقاتلين السابقين وناشطين من المجتمع المدني من كل الأطياف، توافقنا على دحض ثقافة القتل والتأسيس لثقافة جديدة تحترم التعدد وقررنا أن نصبح محاربين من أجل السلام… لذا ندعوا المقاتلين الحاليين أن يدركوا، كما فعلنا نحن متأخرين، أن هناك أيادٍ عدة تستفيد من الشحن السياسي والمذهبي وتعمل على تفرقتنا واقتتالنا.
كذلك ندعو كافة الفئات الشبابية والطلابية والنسائية الى التلاقي في حملات عابرة للطوائف والمناطق والكراهية والحقد، تعالوا جميعاً نغلّب السلم على القتل والحوار على التقاتل والمحبة على الحقد”.
ويختصرون الموقف بالقول “لا يمكننا إلغاء الماضي وإنما في وسعنا تغيير المستقبل” فيعيدون اليوم قراءة الأحداث والنتائج والبحث في أصول المشكلة: بنية النظام اللبناني المولّد للحروب الأهلية والأزمات باستمرار.
كذلك تعمل الجمعية في سباق ثنائي متوازن بين كودرة الأفراد من أصحاب التجارب في الحرب وتحولهم نحو “رفض الاحتكام للعنف بالحد الأدنى أو دعاة سلام بالحد أقصى” وبين العمل “المضني” على المساهمة في تطوير وتغيير النظام المولّد للأزمات.
وتبقى محورية البحث في فلسفة هذه المسألة: هل نحن أمام دعاة سلام، استسلام أم طالبي تقاعد مبكر؟ يمكن جمع كل النقاط في مشروعٍ واحد، ولما لا؟
صعب: مراجعة الذات أولوية
“الجمعية التي تأسست في العام 2013 تضمّ إلى جانب المقاتلين والقادة العسكريين السابقين، فريقاً من الصحافيين والمخرجين واختصاصيين في علم النفس ومجموعة من الناشطين في المجتمع المدني، ممن اجتمعوا على الرغبة في العمل من أجل دولة لا تستخدم العنف،
ومن خلال توحيد جهودنا نتطلع إلى ضم المزيد من المحاربين في الحرب الأهلية إلى الجمعية، كي يصيروا اليوم محاربين من أجل السلام” بهذه الكلمات يلخص زياد صعب، رئيس جمعية “محاربون من أجل السلام” مسيرة هذه الجماعة.
ويستدرك صعب، الذي شغل في فترة الحرب منصب مسؤول القوات المركزية وعضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي اللبناني، أن موضوع بناء السلام “ليس مضاداً للحقوق، أي أنه لا يجب بناء السلام والتنازل عن الحقوق لأن ذلك يصبح استسلاماً”.
وينبّه إلى أن “تجربة العنف لم تنتج أي شيء إيجابي، والتجربة اللبنانية واضحة جداً في هذا السياق، إذ يمكننا القول خارج أيّة شعارات إن الحرب اللبنانية انتهت بتدمير البلد، دون تقدّم فعلي في أي ملف، بل إنها وعلى العكس من ذلك، أطلقت مساراً تراجعياً لا يزال مستمراً حتى اليوم”.
ويضيف “بناءً على المشاهد التي نراها في محيطنا، العنف لا يوصل إلى أي مكان، وهو ليس حلاً بالمطلق”.
نشاطات ذات دلالة
ولترجمة هذه العناوين كان لأعضاء الجمعية مراجعاتهم الشخصية بالتواصل المباشر بين المتقاتلين أنفسهم ومع الآخرين من خلال اللقاءات المباشرة وطرق أبواب الجامعات والأندية في الأحياء والقرى وعبر كل وسائل الإعلام المتاحة والممكنة لبث دعوات الحوار ونبذ العنف والتفكير جدياً ببناء منظومة قيم مختلفة.
أمّا النشاطات العامة المتعددة تبدأ بالعمل على أرشفة وتوثيق الحرب وتفاصيلها عبر العمل على إنشاء مركز يضمّ مؤلفات وأفلام وثائقية ومراجع الكترونية توثّق لذاكرة الحرب الأهلية وقصص مقاتليها.
وهي اليوم بصدد إطلاق تطبيق إلكتروني “Green-Line Walking Tour App” هو الأول من نوعه في لبنان والذي يوفر رحلة إفتراضية على طول الخط الأخضر السابق (خط التماس) الذي كان يفصل بيروت الغربية عن الشرقية.
وهذا التطبيق يتيح لكل المتابعين التعرف على قصص وتجارب محاربين سابقين عايشوا فترة الحرب الأهلية اللبنانية في تلك المناطق كما وتخولهم التعرف والإطلاع على قصص وأحداث قد وقعت في تلك المناطق منذ حوالي ال47 سنة، ففقط إذا كنت تعرف تاريخ بلدك، فهناك إحتمال أن لا يتكرر.
بالإضافة الى سلسلة الطاولات المستديرة والتي تتمحور حول “بناء عقد إجتماعي جديد يعتمد المسائلة والمحاسبة” ولهذا البند بحث آخر مطول.
خاتمة لا بد منها
يقول أسعد الشفتري (نائب رئيس جهاز الأمن والاستخبارات في القوات اللبنانية سابقاً) وهو من أدلى بمراجعات عميقة عن تجربته، إن “التجربة قد ولّدت عندي وعياً روحياً وإنسانياً وتعرّفت على الآخر. وأدركت أنه بالرغم من كل الاختلافات لم يكن من داعٍ للدخول في الحرب التي قتلت 200 ألف شخص وتسببت باختفاء 17 ألفاً آخرين وبكل هذا الخراب الذي سببناه لبلدنا الذي لم نخرج منه حتى اليوم”.
ويقر بأن “الناس لا تصدّق بسهولة الحديث عن التوبة والتطهّر والسلام ولكن مسار إقناعهم بهذه العناوين وأهميتها يتقدم بشكل دائم ويميل عدد أكبر من الناس إلى تصديق ما نقول”.
وأخيراً، لهؤلاء النماذج شرف المحاولة، إن وافقتهم الرأي أم خالفته، المراجعة تحتاج الكثير من الشجاعة وضبط النفس وقبول من كنت تحاربه شريكاً في الحياة، كيف بها في حالة الجمعية تحوَّل الأعداء الى أصدقاء.
وللحديث صلة…