بيروت تنتفض في الأعياد…مبادرات فردية تضرب مثالاً عن مدينة لا تموت
بيروت المذبوحة بكل أنواع السكاكين ليست ميتة. بيروت التي صراخ فجيعتها وصل آخر الارض ليست مبحوحة. بيروت النائمة في مهد الوجع لم تفقد الامل.
بيروت التي هجرتها الحساسين تركت لليمام يلملم حكاية البحر.
بيروت التي فجّرت بالأمونيوم زرعت شواطئها قمحاً.
بيروت التي هدمها السلوقي وقضى عليها الزلزال مرات والحريق قوضها والنيترات فجّرها، تعرف كيف تنفض الموت عنها وتعيد الضوء لمنارتها والشراع لبحارتها.
بيروت التي اختبرت كل أنواع العذابات والاجتياح والأحقاد والإهمال والفساد تدرك أن البكاء ليس حلاً والتعاسة لا تقوى على مدينة الجمال.
ها هي بيروت تحاول أن تستعيد حياتها. من فوق القبور تزرع ورداً، تزين شجراً تطلق حزنها فرحاً، تصدح نغماً. مدينة الرفول لا تعترف بإله الموت. مدينة الحياة لا تعترف سوى بالتفاؤل وبلؤلؤ تاجها وبإرادة أبنائها الذين يعيدون بناء جدرانها ورفع أساساتها.
نعم بيروت حزينة لكنها ليست كسيحة. وعلى عجلات عربتها سترقص وتعيد استجماع قوتها. وتحكي للعالم كما فعلت عبر الأزمان أنها مدينة عصية. مدينة مسكونة بالمعجزات تجعل من صوت فيروز خلاصاً ومن العيد مناسبة لفلفة الجراح.
نعم بيروت مهدمة والدمع يعلو أمواجاً فوق البحر، والاشلاء شواهد الجريمة البشعة التي لم يحاسب مرتكبيها، والشهداء على كافة خارطة الوطن لم تجف دماءهم ولم يخفت صراخ وداعهم. لكن الانتصار لا يكون بالانكفاء، والعودة من الجنائز يحتاج إيماناً للاستمرار. وأبناء الحياة لا يعترفون بالموت سوى أنه خلاص.
نعم هذا العيد ليس لا يشبه سابقه فالغصة غصات. من انفجار وضحايا وضائقة اقتصادية خانقة وكورونا وفقر وعوز ولائحة سوداء لا تنتهي. لكن صوت الحياة ما زال عالياً وهناك من يريد ان يزرع ورداً حول الضريح ومن ينير شمعة في الظلمة ومن يصلي للرجاء ومن يشعل فتيل الأمل في اليأس.
لهذا تأتي المبادرات اللبنانية على أشكال شتى ومنها مبادرة “بيروت مدينة الحياة” بالتعاون مع نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري في لبنان، وهيئات وشركات متعددة لتجسّد رفضاً قاطعاً للاستسلام، محددة وجهتها الجغرافيّة في منطقة النكبة القصوى الجمّيزة ومار مخايل مطلقة على مدى شهر (من 7 كانون الأول إلى 3 كانون الثاني) سلسلة من النشاطات هدفها إنعاش قلب هذه الأحياء المدمّرة، وإفادة سكانها من خلال جعلهم جزءاً من البرنامج الحياتي.
فكانت الأشرفية حاضنة للأمل من خلال إقامة مهرجان النبيذ اللبناني ومن خلال الحفل الفني الذي أحياه فنانون تحت شجرة الميلاد التي تحمل أسم “تحت الشجرة ونحلم” ينشرون الصمود والحب ويوجهون رسالة أمل، وتحية لأرواح الشهداء الذين سقطوا في انفجار المرفأ. بالإضافة إلى معارض فنية وحفلات موسيقية لا تنم سوى عن أن عزيمة الحياة غالبة.
وبيروت لم تنطفىء جذوتها وما زالت قبلة الفن العربي وشاشته وحاضنته. فالحدث المرتقب الأهم الذي ستشهده العاصمة اللبنانية، يتمثل في تصوير برنامج “عراق أيدول” بعد رأس السّنة. كما أن محطة mbc اتّخذت القرار بالإبقاء على استوديوهاتها في بيروت، التي شهدت قبل أسابيع تصوير الموسم الأوّل من برنامج “The Masked Singer إنت مين؟” الذي يجلس في لجنة تحكيمه كل من السوري قصي خولي، واللبنانية سيرين عبد النور، والسعودي مهند الحمدي، والمصري حسن الرداد. وقد بدأ عرض البرنامج على شاشة MBC قبل أسبوعين.
كما ستشهد بيروت تصوير مسلسل يتوجه الى الجمهور العربي يحمل عنوان “آمنيزيا”، وهو قصة وسيناريو وحوار الدكتورة حنين عمر من إنتاج شركة “إيغل فيلمز” وإخراج رودني حداد، وبطولة مجموعة من النجوم اللبنانيين والخليجيين منهم فاطمة الصفي وحمد أشكناني وديامان بو عبود، كارول عبود، إيلي متري، ختام اللحام، سينتيا كرم وغيرهم.
ومن قلب منطقة الجراح صورت نجوى كرم أغنيتها الجديدة “معذور قلبي” لتقول أن الفرح ما زال ممكناً.
هناك من يقول أن هذا الفن والغناء ونصب شجرة الميلاد التي حملت أسم شجرة الحياة ما هو سوى رقص فوق الموت.
لا إنه رقص لرفض البشاعة، احتفال لرفض الاستسلام.
إنه نهوض محفوف بألف آه، لكنه يعني أن خيار الأمل أقوى من اليأس وأن الرجاء لا ينتهي وأن ملائكة الجمال أقوى من شبح البشاعة. وأن المدينة التي شهدت الاغتيالات والحرب الأهلية والاجتياحات الاسرائيلية وإنفجار بيروتشيما ستبقى تحيّر محبيها وحاقديها بقدرتها على رفع قامتها ولو حافية ولو عارية ولو وحيدة.
كمال طنوس