معركة دخانية أخرى: لا أحد يريد محاربة الفساد
لا إصلاح أو محاربة فساد بالتراضي. تأتي تجربة التدقيق الجنائي لتؤكد المؤكد: لن يطلق أحد النار على نفسه، ولن يسلّم لأحد حبياً وبكل طيبة خاطر، أية مستندات يمكن أن تسمح بمحاسبته. هذا أقل المنطق صراحة.
المشكلة في الشارع كما المشكلة مع بعض السلطة: هناك من يتناسى أن هؤلاء خاضوا حرباً أهلية طويلة عريضة، وتسلّقوا آلاف الجثث والجماجم للوصول إلى الكراسي، وهم إذ يسرقون ويسرقون ويسرقون، يعتبرون “مغانم الحرب” جميعها حقاً لهم. وهم سوف لن يتورّعوا عن زجّ ناسهم بحرب أخرى للحفاظ على مكتسباتهم وغنم المزيد.
من يتخيل أنهم سيؤاخذون أنفسهم ويوضبون حقائبهم ويغادرون لمجرد أنّ مئات أو آلاف أو عشرات الآلاف أو حتى مئات الالاف تظاهروا في الشارع، تماماً كمن يعتقد أنهم سيتفرّجون على شركة تدقيق خارجية أو قاضٍ محليّ يدخل إلى مكاتبهم للبحث عن مستندات تسمح بإدانتهم.
في ترتيب كبار الموظفين، تحتّل هدى سلوم المرتبة الأخيرة تقريباً؛ فإذا كانت محاسبة هدى سلوم مستحيلة، فما حال من يحتل المرتبة الأولى أو الثانية أو الثالثة؟
قليل من العقل، يفيد الجماهير دون شك، خصوصاً تلك التي تُؤخذ بالشعارات الكبيرة: تحقيق جنائي، مثلاً. تحقيق جنائي يُشرّعه وزير حركة أمل ويتعاون لتحقيقه كل من رياض سلامة والأربعين حرامي. هل هذا ممكن أو وارد أو معقول؟
هذه “الخبريات” تصلح لتضييع الوقت بين استحقاق وآخر، لكن ليس في وسعها أن تكون جدية بأي شكل من الأشكال، أياً كانت الظروف.
محاربة الفساد تحتاج إلى قرار؛ وهذا القرار غير متخذ، سواء على المستوى الرسمي (الجميع دون استثناء)، أو على المستوى الحزبي (الجميع دون استثناء)، أو على المستوى القضائي (الجميع دون استثناء)، أو على المستوى الإعلامي (الجميع دون استثناء)، أو على مستوى ما عُرف بالمجموعات الثورية (الجميع دون استثناء)، أو حتى على المستوى الدولي.
لعلّ جميع هذه المستويات تخوض بعض المعارك الدخانية لرفع العتب لا أكثر.
تُخاض بعض المعارك لرفع العتب، كما تُخاض بعض المعارك لتحسين شروط التفاوض السياسية أو لأغراض ابتزازية هي أفسد من الفساد.
علماً أنّ هذه المعارك تلهي أنصار هذا الزعيم أو ذلك الحزب أو تلك المؤسسة الإعلامية، لكنها لا تتحوّل إلى قضية رأي عام. والرأي العام هنا ليس أبداً غير مبال أو غير مهتم، إنما هو عقلانيّ جداً، وهو يعلم أنّ المرادف الوحيد للّجان هو التمييع، والمرادف الوحيد لتحديث القوانين هو التمييع، والمرادف الوحيد للاجتماعات التي تُعقد هنا وهناك هو التمييع.
الرأي العام يحتاج منذ أكثر من عام إلى صدمة إيجابية، لكنها لم ولن تحصل مع الأسف. فالجديّ في محاربة الفساد لا يعقد اجتماعات، ولا يبحث عن قوانين إضافية أو يشكل لجان، إنما يهاتف المدّعين العامين الذين عيّنهم، ويبلغهم بضرورة تجاوز كافة الحصانات لفتح تحقيق فوريّ مع كل من توّلى وظيفة عامة وفق قانون الإثراء غير المشروع، مع طلب المؤازرة الشعبية للوحدات الأمنية التي يُفترض بها جلب هؤلاء للتحقيق معهم.
المعركة ضد الفساد مربحة شعبياً جداً، وكثيراً اليوم؛ لكن جميع الأفرقاء السياسيين والإعلاميين والنقابيين – جميعهم وجميعهن – يبحثون عن الشعبية بعيداً عنها. جميعهم وجميعهن يريدون محاربة الفساد كهواية أو “بارت تايم”، وليس كوظيفة.
فيما المعركة الجدية تتطلّب انتحاريّاً حقيقيّاً يقطع علاقته بشبكة المصالح الكبيرة جداً ويخرج ليقول: عليّ وعلى أعدائي. هذه سلطاتي كلها وكتلتي بجميع مكوناتها، وإعلامي، وحزبي، وناسي، بتصرف هذا الهدف الوحيد الأوحد الذي لن نحيد لحظة عنه، حتى تحقيقه. فلا يُثار ملف فساد يوم الاثنين، ثم ينشغلون عنه أسبوعاً أو شهراً أو عاماً ثم يعودون ليقولوا نحن نتابع هذا الملف. عدو كهذا العدو، لا يُقاتل بهذا الشكل.
أما السؤال الأهم، لماذا لا يريد أحد من جميع هؤلاء الأفرقاء السياسيين والإعلاميين والنقابيين وغيرهم وغيرهم، الشروع في حرب حقيقية وجدية على الفساد؟ فيبقى دون جواب، وما يتردد من أجوبة انفعالية ومتسرعة عن أنّ السبب هو تورطهم جميعاً ينقصه الكثير من الإثباتات. مع العلم أنّ الجزء الصعب في هذه المعركة، المعركة ضد الفساد، هو الجزء المتعلق بالإثباتات.
غسان سعود